هناك أخطر سبب للعمليات الانتحارية للإرهابيين الذي قد يغفله كثير من المفكرين والمحللين السياسيين. من المحللين من يرى أن أحد العوامل للانتحاريين هو الكبت الجنسي، لأن الانتحاريين لديهم حالة من الشبق الجنسي دفعته للهوس الجنسي والرغبة للذهاب للحور العين. آخرون يرون أنها عقيدة الكراهية كعامل نفسي للإرهاب. على أية حال، تلك الأسباب قد تكون حقيقية وقد تم مناقشتها كثيرا، لكن من أحد الأسباب الخفية والعامل النفسي الفعلي الدافع للانتحار هو عقلية الإرهابي التي تبحث عن المثالية «Idealism» وتعاني حالة من «الخواء الروحي».
عقلية الإرهابي الخاوية دفعته لتقمص أفكار متطرفة لتعالج هذه الحالة. ثمة دراسة لجون هورغان (Horgan, 2005) في كتابه «سيكولوجية الإرهاب» حيث أجرى المقابلات مع ستين إرهابياً. المقابلات شملت ايضاً عائلات وأمهات الانتحاريين. هورغان تأكد فيها أن الدافع الأعم للانتحاريين هو البحث عن «أهمية الذات». وأدعو هيئة المناصحة والباحثين والمهتمين بشؤون الإرهابيين لاكتشاف تلك الحالة والبحث في سبل علاجها. لأن المواجهة والحرب على الإرهاب ليست مجرد حرب دبابات ومواجهات عسكرية، بل ايضاً ضد عقلية خاوية. ليست لدينا القدرة على وقف الإرهاب حتى نفهم الطريقة التي يجمع بها الإرهاب المؤيدين إلى صفوفه، إنها سياسة الوقاية بدلاً من الانتقام. أحد تلك الطرق اصطياد الشباب التي تعاني حالة الخواء الروحي وهي مشكلة كبيرة تهدد السلم الاجتماعي والاستقرار الأمني الوطني وينبغي التصدي لها وكشفها.
تفسير ما أعنيه بالخواء الروحي هنا هو البحث عن النموذج والقدوة التي تتمثل في مبادئ وقيم اجتماعية ما، والسعي للشعور بالأهمية الذاتية والمثالية. هذا السبب الذي جعل صاحب المليارات يعيش في الكهوف ويطلق اللحية ويعيش حالة التقشف وجهد وعناء مثل أسامة ابن لادن وغيره، للتغلب على حالة الخواء الروحي والسعي للوصول للمثالية حسب القيم التي يعتقدها.
حالة الخواء الروحي تتطلب عمق المعالجة. أكثر ما تظهر تلك الحالة لدى المراهقين، بسبب المرحلة النمائية العمرية للنمو الذي يكون فيه النمو الاجتماعي للمراهق في البحث عن القدوة والنموذج خارج إطار الأسرة. بعضهم يدعي أن الشباب الغربي العلماني هو فقط من يعاني من الخواء الروحي وينتشر فيه الفساد والانحلال الأخلاقي والانتحار بين شبابه. الواقع أن المراهقين في كل دول العالم قد تصل لتلك الحالة وتعاني منها لكنها تختلف درجتها وحالتها من مجتمع لآخر. في كل مجتمع حسب القيم والمبادئ المنتشرة والأنظمة والسياسات المتبعة فيه، أما انها تشبع الروح المثالية لدى شبابها أو لا. ما يهمنا هنا هو شبابنا في الوطن العربي، وكيف أدت بهم حالة الخواء الروحي للعمليات الانتحارية في تصوره أنه الجهاد المقدس، وما يعنينا هنا ما هي أسبابها؟
الأسباب للخواء الروحي تعود للتربية التأنيبية التي تشعر المراهق بخيبة الأمل. مثلاً: وضع طموحات عالية أكثر من قدرات المراهق وإشعاره بأن وضعه مخيب للآمال، هذا للاعتقاد بأن ذلك يزيد من عطائه وأدائه. ويزيد الآباء أو المربون من التقليل من شأن المراهق وإشعاره بالفشل بسبب طموحاتهم في أبنائهم أو طلابهم وتوجيه اللوم لهم، أو يشعر الآباء أبناءهم العاطلين بأنهم عبء على الأسرة في ظنهم أنهم يحفزونهم لإيجاد العمل وهم بذلك يخنقون روح العنفوان الشبابية لديهم. لذا يلجأ المرهقون للانتحار بالعمليات الانتحارية أو المغامرات المجنونة للتخلص من الشعور بخيبة الأمل.
شعور ثاني أكثر سواء وهو الشعور بالذنب نتيجة التربية التذنيبية. الجماعات الإرهابية تدرك أهمية خلق الشعور بالذنب لدى المراهق لدفعه للانتحار بقصد الجهاد وتطهير الذنوب، يستخدمون مع المراهق الشعور بالذنب والحاجة للتكفير، بحيث يجعلونهم يقترفون الكثير من الذنوب مما يجعلهم يرغبون في تنظيف أفكارهم وجعلهم يحتقرون أنفسهم ويتحلون بإنكار الذات وتعويدهم على إذلال أنفسهم من أجل التخلص من تلك المشاعر السلبية.
الشعور السلبي بالضعف والاختناق المعنوي للمراهقين ينمي حالة الخواء الروحي والبحث عن مثالية مشرفة الذي تستغله الجماعات الإرهابية. في مثال حال الطلاب الجدد الذين يتعرضون للفشل أو الخريجين الجدد الذين يفشلون في الحصول على عمل أوفي حالة اضطراب عقلي أو نفسي كالاكتئاب بسبب تربية قاسية. وبسبب الشعور بالفشل تمنح الجماعات الإرهابية المنتمين اليها شعورا بالأهمية والمثالية لا يحصلون عليه في مكان آخر. وأن القائد يمثل الرمز وأعلى المثالية للمجموعة، وعندما يتخذ أحدهم رمز قائد الأمة أوخليفة المسلمين لإشباع حالة من المثالية لدى فئة مغفلة، مثلما ادعى أبو بكر البغدادي بأنه خليفة المسلمين ليوجدَ مبرراً مثالياً لجرائم جماعته الإرهابية وللعب بالقيم والمثالية الإسلامية العليا.
التماهي مع مثل المجموعة وضغوطها سبب للعمل الانتحاري. للتماهي مع المجموعة تسعى الجماعات الإرهابية لإقناع من يخضعونهم للعمل الانتحاري من المراهقين بأن قائدهم يسعى ليموت من أجل المثل العليا، فلماذا لا يموتون من أجلها. جون هورغان كشف عن التطور السيكولوجي لانضمام الأفراد إلى الجماعات الإرهابية، وأن السلوك الإرهابي يتطور بفعل العقلية الديناميكية الجماعية. الجماعات الإرهابية تمارس ضغطا اجتماعيا على منفذ العمل الإرهابي على شكل قيم أخلاقية تدفعه للتماهي مع إجماع الفئة الضالة فكرياً، وكلما امتثل لقيمها قدمت له تلك الفئة دعماً مادياً ونفسياً يتمثل في اشعاره بتحقيق المثالية المنشودة للتعبئة الروحية الإرهابية. إن التماهي مع الجماعة نتيجة خواء روحي مجتمعي. والخواء الجماعي يظهر في المجتمعات التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي والأمني كالعراق وسوريا مثلاً في هذه الفترة. لذا فإن الخواء الروحي لا يصيب فقط الافراد بل أيضا المجتمع الذي يؤثر أفراده على بعضهم البعض.
عموما، يمكن إن ألخص أسباب الخواء الروحي كالتالي:
1 - فقدان المثالية والقدوة الصالحة خاصة للمراهقين. 2 - فقدان الشعور بالأهمية الذاتية. 3 - الشعور بعدم القدرة على الإنجاز وخيبة الأمل. 4 - التربية التأنيبية التي تخلق فيه شعورا بالفشل. 5 - التربية التذنيبية التي تخلق فيه الشعور بالإثم والذنب. 6 - التماهي مع الجماعات الإرهابية في بلاد غير مستقرة سياسياً.
الحلول المقترحة تعبئة الروح المعنوية للفرد والمجتمع. تقديم أمثلة ونماذج مشرفة يقتدي بها الشباب في كل المجالات الدينية والرياضية والإعلامية والفنية... وجعل الشباب يتمكن من تفريغ طاقاته بتأسيس الكثير من الأنشطة والأندية الرياضية لينمي فيها شباب الأمة عنفوانهم. فتح المجال أوسع للقبول الدراسي في الجامعات لجعلهم ينخرطون في العمل الأكاديمي، وتسعى الجامعات لرفع روح المساهمة الاكاديمية وجعل الأمور أسهل وأفضل للطلبة للاجتياز الأكاديمي. بالإضافة إلى هناك أيضا الأنشطة التطوعية والخيرية والإبداعية في المدارس والجامعات، ويأتي دور الإعلام في إبراز المواقف السياسية المشرفة لبلادهم التي قام ويقوم بها قادتنا العظام حفظهم الله، لرفع الروح المعنوية والفخر للمجتمع. الحكمة عند تعبئة الروح المعنوية وتقديم القدوة المثالية للشباب لنضمن ان لا أحد من شبابنا في بلادنا يقدم على عمل إرهابي انتحاري نتيجة اتخاذه قدوة وأمثلة خارج الوطن الغالي.