شبّه ألبرت أينشتاين ممارسة الحياة بركوب الدراجة الهوائية، فقال: «إن أردت أن تحتفظ بتوازنك، فعليك أن تدفع قدماً». وفي مثال شائع «القول سهل، والفعل صعب». ولعل في التجربة السعودية، في الماضي الفائت والحاضر المُعاش الكثير مما يشهد بصدق هذين القولين. فالسعودية اليوم أمام متغيرات لا تملك سوى التحرك تفاعلاً معها؛ وفي الوقت ذاته، تكلم السعوديون كثيراً، عبر عقود مضت، عما لزم عليهم عمله للتصدي للمتغيرات التي واجهتهم؛ وهم ما يزالون يتكلمون، ولا يبدو أن هذا سيتغير حتى يواجه السعوديون أسباب توقفهم عن الفعل، ويجدون سبيلاً عنها، فهم حتى الآن لا ينظرون إلا إلى عدم الفعل، لا إلى أسبابه. وهنا تكمن معضلتهم.
إنَّ التحدي أمام السعودية كبير بلا شك، وليس بيد أحدٍ من أهلها ـ ومنهم كاتب هذه السطور ـ حلول سحريةً تنقلها بسرعة دون شديد عناء، إلى بر الأمان، ومَن يعتقد بغير هذا فهو لا يعي المشكلة بكامل أبعادها. فالسعودية لم تعُد بلداً جديداً على التنمية، فيكون أهلها ما يزالون معتادين الشدة، مقبلين على الكدِّ، آلفين ضيق السبيل؛ بل إن أكثرهم ولدوا في عصور طفرات النفط الكبيرة، تذوّقوا الرخاء، وصارت لهم ارتباطات به وتوقعات. والسعودية اختارت أن تنهج سبيل الاقتصاد الريعي الذي يقوم على مصدرٍ واحدٍ للدخل، ويعتمد على الإعانات والمشاريع الحكومية لحِراكِه، وهي الأشياء التي لم تعُد متيسرة الآن، وقد تدنّت أسعار مصدر دخلها الوحيد وانخفض ريعه. والسعودية تسود فيها مفاهيم ومحذورات لا وجود لها في كثيرٍ من البلاد الأخرى، ولها تأثير ـ لا مثيل له في سواها ـ على حياتها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية. هذه حقائق، وكما قال جون آدامز: «الحقائق أشياء عنيدة».
إن الطريق أمام السعودية ينطوي على أكثر من تحدٍ واحد؛ فهي من ناحية مضطّرة للتعامل مع انخفاض ريع النفط؛ فتتحوّل عن سياساتها الريعية السابقة، مع ما يترتب على هذا من آثار على مواطنيها وعلى اقتصادها، ومن ناحية ثانية السعودية مضطرة لأن تتصدى للمعوقات الهيكلية التي تحول دون أن يكون لها اقتصاد مستدام تُقبل على الاستثمار فيه رؤوس الأموال، وتتعدد فيه مصادر الدخل، وتتوافر فيه فرص العمل للمواطنين. إلا أن المعضلة أمام السعودية ليست في تحديد مقصدها، وإنما تكمن في اختيار الطريق الذي يهديها إليه بأقل ضررٍ ممكن، فالأساسيات التي يلزم أن تعمل السعودية بها؛ معروفة مكوّناتها، لا أسرار فيها، نشرت عنها مراكز البحث والصناديق المتخصصة، وتطرقتُ إليها في مقالات سابقة، وتواترت المطالبات بها منذ عقود، وصدرت قرارات بالعمل على تحقيق بعضها، ولكنها لا تزال عصيَّة المنال. والآن، والسعودية في المنحنى الذي حلّت فيه، يكون من الخطأ بمكان الاعتقاد بأن التصدي للأمر لا يعدو عن برامج مالية وإدارية، ليس إلا، فتجارب الدول التي خضعت لمشاريع تحوّلّية، خاصة تلك التي أفضت إلى فقدان مواطنين لوظائفهم، وإلى ارتفاع تكاليف عيشهم، تنذر بأن الطريق وعرٌ، وتجربة السعودية، في قصورها عن تجاوز المعوقات الهيكلية التي تواجهها، تفيد كذلك بأن الأمر أكثر صعوبة مما تصوّرتْه حتى الآن.
إنه لا مناص للسعودية من أن تدرك الأبعاد الاجتماعية والتشريعية والسياسية للتحديات التي تواجهها، والتي يلزم عليها أن تتصدى لها. أما بالنسبة للمسألة الأولى، وهي تعاملها مع انخفاض ريعها من النفط على أثر تراجع أسعاره، فإن تحوّل جُلّ مواطنيها عن حياة الرغد التي ألفوها، إلى حياة أقل رخاء، دع عنك تحمّلهم لرسوم وضرائب لم يألفوها من قبل يستدعي أن يكون لهم دور أكبر في صنع هذه التحولات، وفي إقرارها. فأن يصدر قرارٌ بصرف إعانات، واعتماد مشاريع، غير أن يصدر قرارٌ بحجبها. في هذه الأثناء، وإلى أن يكون ذلك يحسن أن يسبق مشروعها التحوّلي النظر في حزمة من الإجراءات والإصلاحات التي تخفف من وقع التحولات على المواطنين، بما يسمح به رصيدها، وتتيحه إمكاناتها، وتيسّره خياراتها مما يمكن أن ترشّد فيه من مصروفات داخلية وخارجية. فالسعودية ليست في أول الطريق، فتختار بين سياسات تنموية مستدامة وبين سياسات ريعية غير مستقرة، بل هي في وسط جادةٍ اختارت أن تسير فيها منذ عقود خلت، وترتّب عليها ارتباطات صارت حياة مواطنيها تقوم عليها الآن.
وبالنسبة للمعوّقات الهيكلية التي تحُدّ من الاستثمار في اقتصادها، وتقلِّل من فرص العمل التي يمكن أن يقدمها هذا الاقتصاد لأبنائها، وتمنع من حسن تأهيل هؤلاء بما يُمكّنهم من الإفادة من هذه الفرص، فيكون لهم بديل يركنون إليه، عندما تباشر السعودية التحولات اللازمة، فإن التصدي لهذه المعوقات أيضاً يستدعي أن يدرك السعوديون بأن الأرضية التي يقفون عليها لا تسمح لهم بالفعل الذي يصبون إليه، وأنَّ عليهم أن ينظروا في أرضية جديدة ينطلقون منها لتجاوز المعوقات التي لا مناص لهم عن مواجهتها. وكما أن السعودية بحاجة لإيجاد بدائل مستقرة ومتعددة لمصادر دخلها فهي أيضاً بحاجة لأرضية جديدة لعملها. هذه الأرضية هي العمل المؤسسي الذي يوسع دائرة القرار، ويحمل المشاركون فيه تبعاته ومسؤوليته، ويساعد في قبول السعوديين لأشده مرارة. فالسعودية مقبلةٌ على مرحلةٍ في تجربتها غير ما عهدته في ماضيها، وتتطلب منها غير ما سارت عليه حتى الآن. وما لم تواجه السعودية هذا الواقع، فهي قد تبقى تدور في حلقات مفرغة لا تُفضي إلى نتيجة فاعلة.
ومن أبرز الأمثلة على ما سبقت الإشارة إليه من حلقات مفرغة سياسات السعودة القائمة، فهذه السياسات لا تؤدي الوظيفة الانتقالية المرجوّة منها، بل هي تزيدها تعقيداً. فكثير من المنشآت السعودية الحالية تقوم على اقتصادات العمالة الرخيصة المستقدمة من الخارج، وعلى توفر المشاريع الحكومية الكبيرة؛ ولذا، فهي ليست مهيأة لتقديم فرص العمل التي يقبل عليها السعوديون، إضافة إلى أن كثيراً منها سوف يشهد تراجعاً في أعماله، تبعاً لانحسار المشاريع الحكومية التي قامت عليها هذه المنشآت. فالأمر يستدعي رفع الطاقة الاستثمارية في الاقتصاد السعودي، ونشوء منشآت جديدة تقوم على أسس غير الأسس التي قامت عليها منشآت الأمس، وتواكب أعداد السعوديين المتزايدة الباحثة عن العمل، وكذلك يستدعي وجود شباب سعودي مؤهل للانخراط بالعمل في هذه المنشآت عندما تنشأ. بل إن وجود مثل هؤلاء الشباب المؤهل، والمتحفز، للعمل هو أحد المتطلبات الهيكلية لقيام مثل هذه المنشآت. أي أن الأمر يستدعي مواجهة المعوقات الهيكلية المزمنة، إذ لا مناص عن ذلك إذا أرادت السعودية أن تحقق تقدماً حقيقياً في هذا السبيل. وسياسات السعودة الحالية داءٌ مرّكب، لا علاج مفيدا؛ فهي من ناحية توهم السعودية بأنها بصدد معالجة بطالة شبابها، وهذا غير صحيح؛ فتوظيف السعوديين لا يتحقق من فرض وظائف وهمية لا عمل حقيقيّا فيها، ولا يُتصور استدامتها. ومن ناحية أخرى فهي تنمّي في السعوديين قيماً غير القيم التي يلزم زرعها فيهم، خاصة وهم مقبلون على التحولات التي تنتظرهم.
إن السعودية، وهي تواصل السير في نهضتها الكبيرة بحاجة لمواجهة التحديات المزمنة التي منعتها، ولا زالت تمنعها، من بناء الاقتصاد الفاعل الذي يعزز من استقرارها ويحفظ أبناءها ويحقق طموحاتها. وقد آن الأوان لنقلة نوعية في هذه البلاد الطيبة تُهيئ لمواصلة بناء دولة المؤسسات فيها، وتسمح لها في إتمام ما تصبو إليه، وما يليق بمركزها، ويرقى لمقامها. وقد مرت السعودية بمثل ما تمر به في هذه الأيام قبل أكثر من عقدين من الزمان، عندما هبطت أسعار النفط، وانخفض ريع السعودية منه. والعبرة التي يلزم للسعوديين أن يأخذوها من هذه التجربة السابقة ليست هي أن أسعار النفط عادت إلى الارتفاع بعد انخفاضها، ما مكنهم العود إلى ما كانوا عليه؛ بل العبرة التي يجدر بالسعوديين أن يأخذوها هي أن أسعار النفط سوف تتذبذب صعوداً وهبوطاً، وفي كل مرةٍ تنخفض فيها الأسعار يكون التحدي لهم، وقد زاد عددهم، وتعمّقت ارتباطاتهم، أشدَّ من ذي قبل. فلعل السعودية لا تكرر الخطأ الذي وقعت فيه في السابق. والمؤمن لا يُلدَغ من جُحرٍ مرتين.
- زياد بن عبدالرحمن السديري