عبد الاله بن سعود السعدون
مرت الدولة التركية منذ تأسيسها عام 1923م بمراحل عديدة مختلفة التوجه والشكل ومع ولادة الجمهورية الأولى وإعلان النظرية الأديولوجية للعهد الكمالي بارتكازه على فكر العلمانية الغربية والتوجه الاجتماعي نحو مظاهر الحياة الغربية آنذاك فاستبدل الطربوش بالقبعة الغربية ومنع الحجاب على النساء وتعميم حرية الزي الغربي بين كل أفراد المجتمع التركي آنذاك وتغيير الحروف العربية إلى اللاتينية.. المفكرون العرب منذ ذلك العهد حتى يومنا هذا باختلاف حول تقييم العهد الكمالي بتركيا بين مؤيد ومساند للإصلاحات التي جاءت بها النظرية الكمالية العلمانية والفصيل الآخر يعارضونه وبشدة ومن نظرة دينية بحتة بإزالة المظاهر الإسلامية من الحياة العامة للشعب التركي. وتحجيم الهوية الدينية وتم تأسيس حزب الشعب الجمهوري بزعامة أتاتورك ليمثل الإطار السياسي للنظام الجديد وتميزت مرحلة التأسيس الأولى بظهور قوة المؤسسة العسكرية وتأثيرها على الحياة السياسية وتغير التوجه السياسي بفوز الحزب الديمقراطي بزعامة جلال بايار وعدنان مندريس بالأغلبية البرلمانية ي الانتخابات العامة عام 1950م بفوزه 397 مقعداً من أصل مجموع مقاعد البرلمان البالغة 486 مقعداً ومع بقاء التوجه العلماني الكمالي كنظرية أيدلوجية لعهد مندريس إلا أنه أجرى بعض الانفراج على القوى الإسلامية وأعاد لغة الأذان إلى العربية بدلاً من التركية التي أقرها عهد عصمت أينونو وسمح للجمعيات الإسلامية ببناء أكثر من عشرة آلاف مسجد وجامع بعام واحد.. إلا أن عهده أنتهى بمأساة أعدامه إثر قيام الانقلاب العسكري الأول عام 1960م الذي نفذه الجنرال جمال كورسيل وتنصيب نفسه رئيساً للجمهورية إثر فوضى أمنية حركتها القوى اليسارية في الشارع السياسي ومع عودة الحكم المدني بعد الانقلاب واعتماد الديمقراطية البرلمانية أساساً للحكم إلا أن هيمنة المؤسسة العسكرية بقيت تؤثر على حركة العملية السياسية للسلطة التنفيذية واستمرت الانقلابات السياسية تظهر مع كل أزمة سياسية تواجه الأحزاب والكتل السياسية حتى بلغت أربع حركات انقلابية نفذتها قيادة المؤسسة العسكرية مؤثرة على الحريات العامة وتعطيل النمو الاقتصادي.. حتى عام 2002م بإعلان فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية البرلمانية إثر مشاركته بالانتخابات العامة وتشكيله لوزارته الأولى وبدأ عهد جديد ومرحلة مفصلية في تاريخ السياسة التركية، ومع بقاء مسمى النظام العلاني الكمالي للإطار السياسي للجمهورية التركية حسب الدستور إلا أن قيادات الحزب الحاكم أدخلت أيدولوجية سياسية جديدة تميل للإسلام الوسطي المزيج بالوطنية مما حظي بالتفات معظم أبناء الشعب التركي المتعطش للإسلام ومظاهره في حياتهم العامة.. وتم وضع المؤسسة العسكرية ضمن محيط واجباتها المهنية وقدمت لمنسوبيها كل التسهيلات اللازمه لرفع قدراتها العسكرية وترفيه منسوبيها؛ إلا أن المغامرين من عشاق السلطة لا يروق لهم الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي والدور المحوري الأقليمي والدولي لتركيا في عهد الرئيس أردوغان ولابد من تدبير المؤامرة بظلام الليل كعادة اللصوص بالسطو على السلطة وبدعم وتمويل قوى غربية وشرق أوسطية كما بينت التسريبات في الإعلام التركي وتعمل لأيقاف عجلة تقدم المجتمع التركي نحو منافستهم اقتصادياً بعد دخول منتجاته للأسواق الغربية وانتشاره في إفريقيا وآسيا. بالأضافة لتنامي موقعها السياسي والعسكري ودورها المؤثر في القضايا الإقليمية والدولية مما يجعل التأثير الغربي على قرارها السياسي صعباً.
ولابد من تغير النظام بعودة الدكتاتورية العسكرية لتأخير الدولة التركية قرناً كاملاً من أجل تمرير مخططاته السياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط بأكمله وباستغلال عملائهم أمثال فتح الله كولن وأتباعه الانقلابين المشترين بالدولار والروبل والتومان.
التساؤل الذي يصعب إيجاد التفسير المنطقي له هو كيف استطاعت هذة المنظمة السرية المتسترة تحت جلباب المؤسسات التعليمية المنتشرة في العالم أجمع. أن تتغلغل وتخترق أبعد المناطق المحرمة في المؤسسة العسكرية والمنظومة الأمنية والقضاء التركي وهل يمكن بعد هذا الصراع المسلح الانقلابي وإفشال الشعب لكل مخططاتهم الإجرامية أن يعلن مكتب المدعي العام التركي والمتولي فك طلاسم هذة العلاقات العنكبوتية لهذه المنظمة السرية داخل تركيا وخارجها وعلاقاتها المشبوهة مع الجهات الاستخاراتية الدولية والتي تتخذ من مزرعة كولن في بنسلفانيا مركزاً لعملياتها الانقلابية وأثار مطلب القضاء التركي باستعادته وتسليمه للقضاء التركي توتراً في العلاقات الأمريكية التركية والتي كانت توصف ولعقود مضت بأنها استراتيجية مميزة.. أدركت حكومة يلدريم الحالية أن إغلاق المؤسسة العسكرية على نفسها واستقلالها بقرارتها المهنية يشكل خطراً متوقعاً على الأمن العام ولابد من أعادة هيكليتها التنظيمية وكسر استقلالية المصدر بجعل أرتباطها الأداري بوزير الدفاع بدلاً عن القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية وكان ارتباطاً بروتوكولياً فقط..كما سيساعد إعلان حالة الطواري في تركيا منح الحكومة بإجراء عملية تصفية في كل مرافق الدولة من الخلايا النائمة والتابعة لمنظمة كولن الانقلابية وضرورة تشكيل تنظيم عسكري جديد يهتم بالأمن الداخلي وذلك بدمج قوات سلاح الحدود (الجندرمة)! مع قوى الأمن الداخلي وفكها من التبعية العسكرية نحو مسؤولية وزارة الداخلية وتسليحها بأحدث المعدات العسكرية لمواجهة أي خروج منظم عن السلطة الشرعية المنتخبة.. وتدور تكهنات قريبة من القصر الجمهوري بأن هناك قرارات هامة ومؤثرة على توجهات السياسة الخارجية التركية متأثرة بنتائج التحقيقات مع الانقلابين وبالذات في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية و(بعض) دول الشرق الأوسط.. كما تقرب المسافة الودية بين تركيا وعالمها الإسلامي وأيضاً مع روسيا الاتحادية.
وتلازمت إجراءات الحكومة السياسية والاقتصادية الحكيمة مع أعطاء اهتمام عالي بالناحية الأمنية ومنح المحافظين سلطات رئيس الحكومة بدلاً عن القادة العسكريين، كما كانت العادة في أعلان الحكم العرفي سابقاً.. ومن التداعيات الإيجابية للانقلاب الفاشل التفاف كافة الكتل السياسية باختلاف فكرها السياسي والتي كانت تتناحر سابقاً توحدت في صف وطني واحد محققة مصالحة وطنية لم تشهدها تركيا طيلة عمر الجمهورية الأولى ملتفة حول العلم التركي رمز الدولة والوطن.
الحياة السياسية التركية تنتظر حالة فريدة من المخاض السريع الذي سيولد متغيرات داخلية وخارجية متناسبة بحجم الأحداث الجسام التي عاشتها تركيا الدولة والشعب منذ ليلة الخامسة عشرة من يوليو الصعبة حتى نهاية فترة حالة الطوارئ الحالية.