عروبة المنيف
في فترة التسعينيات الميلادية، دعيت إلى وليمة عشاء في بيت إحدى الصديقات الأجنبيات المقيمة مع زوجها في المملكة، وقد كان الوضع المادي والاجتماعي لتلك الأسرة المضيفة رفيعاً. لقد كان عدد المدعوات لا يتجاوز عشر نسوة، وعندما دعتنا مضيفتنا لغرفة الطعام، كان العشاء متواضعاً إلى الدرجة التي مسحت بها الصحون إلى آخرها!.
في وقتها تعرضت تلك السيدة الأجنبية للانتقاد اللاذع «بالطبع من خلال الأحاديث السرية الجانبية» بسبب ذلك الشح في التقديم!، على الرغم من أن جميع المدعوات كن قد اعترفن بأنهن قد شبعن! ولكن كانت حجتهن أن» العين التي تأكل وليس الفم».
بعد مرور تلك السنين وتعاقب الطفرات النفطية وتغير الأنماط الاستهلاكية في المجتمع، وازدياد معدلات الإسراف جالت بخاطري تلك الدعوة القديمة، ولا سيما أن الوضع الاقتصادي للمملكة بدأ الآن في التبدل ما يتطلب نوعاً من التدريب على شد أحزمة البطون وتوسيع نظرة العيون!.
ساهمت بعض المفاهيم السائدة في إحداث تغييرات على السلوكيات الاستهلاكية في فترات الطفرات النفطية بشكل سلبي، من تلك المفاهيم على سبيل المثال عبارة «أن العين تأكل قبل الفم» وعبارة «الزود ولا النقص» والتي تحولت إلى ثقافات استهلاكية عكست الأهمية العظيمة لنظرة الآخرين وكسب رضاهم إلى الدرجة التي أصبح فيها الآخرون هم من ينفقون أموالنا نيابةً عنا.
إن تلك المفاهيم السائدة في الولائم مثلاً، يتم ترديدها من أجل تبرير سلوكيات اجتماعية لها انعكاسات سلبية على اقتصاد الأسرة، وتفرض واقعاً إسرافياً لم ندرك حجم ضرره على المدخرات الفردية وعلى الاستقرار الاقتصادي والنفسي للأسرة، ولا يخفى الأذى النفسي الذي يقع على الفقراء والفئات المحرومة من المجتمع.
وهل يخفى على أحد ظاهرة « بقايا المفاطيح والبوفيهات» بعد الولائم كنتيجة لسيادة تلك المفاهيم؟، حيث تلقى غالبية تلك البقايا من الأطعمة في حاويات القمامة والتي تكلف الدولة الأموال الطائلة للتخلص منها أيضاً.
قد يبرر البعض بأن تلك» البقايا «من الأطعمة الفائضة التي تفوق كمياتها عدد المدعوين بأضعاف مضاعفة، ستأخذ طريقها إلى الجمعيات الخيرية لتوزع على الفقراء الجوعى! هنا تحضر» النية» « فالأعمال بالنيات»، فهل كانت النية في ذلك الفائض من الطعام بهدف التبرع به للجمعيات الخيرية لإشباع بطون الفقراء!!؟ أم أن الهدف كان من أجل تبييض الوجه أمام الضيوف وملء عيون المدعوين من المقتدرين!
القضية ليست شائكة، إنها تتلخص في تدريب وتهذيب «الأنا المتضخمة «التي يطربها سماع إطراء الآخرين ويروق لها رفع سقف رغباتها اللامحدودة على الرغم من أن الضمير في الغالب يكون متيقظاً ويقر في أعماقه بأن ما تمارسه تلك الأنا فيه إجحاف بحق نفسها وبحق الآخرين، ولكن يبقى تفعيل الإرادة الطيبة مهم لتساهم في تهذيب الأنا.
نتساءل : وهل يضير اقتطاع مبلغ شهري من دخل المقتدرين «كصدقة جارية» لأسرة محتاجة تسدد فيها احتياجاتها الضرورية من منطلق المسؤولية الفردية تجاه الفئات المحرومة؟ إن تطوير» الحس الإنساني» يساهم بشكل كبير في الرفع من مستوى الوعي الضروري لبناء مجتمع متحضر، قال تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}، فهل نعي قيمة التزكية والتطهير مقابل التبذير والهياط!.