الإنسان عطاء متجدد في شتى مراحل العمر.. وما مرحلة التقاعد إلا إحدى أهم المراحل العمرية للإنسان، إن هذه الفئة القديرة والمعطاءة أعطت هذا الوطن الغالي عطاءات متميزة كل في مجاله، وما شبابنا وفتياتنا في ميادين العمل المختلفة إلاَّ ثمار لذاك الزرع الندي، وما المشاريع العملاقة والشامخة في بلادنا إلاَّ ثمار لغرسهم الطيب المبارك.. تلكم النفوس الطيبة التي يجب علينا الآن أن نكرمهم بعد مسيرة العمل الطويلة والعطاء المتواصل، ولكن كيف نقدم لهم الشكر وكيف نكرمهم؟
هل نقدمه لهم بعزلهم عن المجتمع، وبالجلوس في أحضان الفراغ والأرق والقلق يأكل أوقاتهم؟؟ أم نتركهم للتحسر على ما مضى من عز وفخر بالعطاء؟ أم للمرض والتفكير بالمثل القائل «مت... قاعد»؟
لا وألف لا.. بل بالعطاء وتقديم الخدمات المساندة لهم وعدم نسيانهم، ومشاركتهم في جميع الميادين والنشاطات والاجتماعات والمؤتمرات والندوات والاستشارات واستحضار خبراتهم والاستفادة منها لأنهم كنز ثمين لا يقدر بثمن. وبذلك يشعرون بالروح المتجددة والعطاء بعيداً عن الوحدة والفراغ والشعور بأنهم باتوا في عزلة عن المجتمع مما يؤثر إيجابياً في حياتهم وتصرفاتهم ومشاعرهم.
صحيح أن التقاعد ظاهرة اجتماعية وحضارية موجودة في كل المجتمعات المتقدمة والنامية، وهي ظاهرة أفرزها بمفهومها العصري المنظم المجتمع الصناعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما واكب ذلك القرن من تشكل جديد لعلاقات التعامل، ونمو لمفاهيم حديثة حول منطلق وأبعاد حقوق الإنسان ارتقى بمستوى الحقوق التقاعدية إلى ما هي عليه اليوم، ففي الوقت الحاضر حدث تطور عظيم في التعامل مع ظاهرة التقاعد إذ لم تعد حقوق المتقاعدين كما كانت حين بدأت في الماضي مقتصرة على الجانب المالي فحسب ، بل أصبح للمتقاعدين برامج اجتماعية وصحية توفرها المجتمعات المتقدمة إلى جانب البرنامج المالي أو المعاشي الذي يتغير ويتطور باستمرار.
وما أحرانا أن نقدم برامج استباقية لمن هم على أبواب التقاعد فمثلا تكوين وحدات في الجهات الحكومية مهمتها وضع برامج لتهيئة الذين هم على وشك التقاعد نفسياً ومهنياً واجتماعياً ومتابعة شئونهم بعد التقاعد بما يكفل لهم استمرار العطاء والحياة الكريمة. وإنشاء جمعيات اجتماعية للمتقاعدين تكون فروعاً للجمعية القائمة حالياً تسهم في تقديم الخدمات الاجتماعية والاستشارات المهنية لهم تختلف عن مفهوم خدمة المسنين. والرفع إلى الجهات الخدماتية في القطاعات المختلفة للنظر في رفع نسبة من الرسوم الخدماتية عنهم تقديراً لجهودهم ولما بذلوه في خدمة أوطانهم والتفاني والسهر على راحة الأجيال القادمة وإجراء المزيد من الدراسات الميدانية واللقاءات العلمية لتدارس قضايا المتقاعدين.
وليس هناك أروع من الاستفادة من خبرات المتقاعدين في جميع القطاعات فهم الشجرة المثمرة المعطاءة ولا زال بها الخير الوفير وما أجدرنا في وسائل الإعلام المختلفة من الوقوف معهم والتعريف بهم وبخبراتهم ومهاراتهم، فالعطاء ليس له دخل «بالعمر» وكم من المتقاعدين وكبار السن لازالوا يخدمون المجتمع عن طريق الأعمال التطوعية المتنوعة ويشعرون بالسعادة والارتياح النفسي مما يجعلهم متفائلين.
فرح المتقاعدون حين إشهار «الجمعية الوطنية للمتقاعدين» منذ سنوات مضت وهي ذات أهداف عظيمة اجتماعية وصحية، اقتصادية وحقوقية، تنموية. كما فرحت المتقاعدات بافتتاح القسم النسائي لهن فهذا القسم يحتض بين جنباته عدداً من العضوات المتحمسات الواثقات بأن العطاء لا ينتهي بتحديد سن التقاعد، بل العطاء موجود طالما الروح موجودة في الجسد بإذن الله. ويسعى القسم النسائي للاستفادة من توظيف خبرات المتقاعدات، والتواصل مع الجمعيات واللجان الأخرى في مناطق المملكة بهدف تبادل الخبرات والحفاظ على حقوق المرأة المتقاعدة.
ولكن مع كل ذلك... يبقى للمتقاعدين والمتقاعدات مطالب لا بد أن تتحقق بإذن الله تباعاً أملاً بالخروج من زاوية النسيان إلى دائرة الضوء والشعاع.