يظهر مفهوم «الإصلاح» كأحد أكثر المصطلحات إشكالاً في الثقافة العربيّة، والإشكالية لا تأتي من عدم إيمان المجتمعات بدور المُصلح وما يمثله من أهميّة في تقويم اعوجاج المجتمع، إنما تتمثل في غياب تحديد الأولويّات المفترض إصلاحها، ما يجعل بعض من يضطلعون بمهمة الإصلاح لا ينظرون إلى سوء أحوالهم الشخصية أو أحوال أبنائهم ومن يقعون تحت أيديهم، بل ينصب عملهم على إصلاح الآخرين، وأحياناً يرومون تحقيق إصلاحات على مستوى الدولة وهم عاجزون عن معالجة السلوكيات الخاطئة المقترفة في منازلهم.
الاعتقاد بأن الآخرين هم مصدر الفساد من أكبر المعضلات التي تواجه أي عملية تروم الإصلاح، ولو أن كل فرد اشتغل في إصلاح ذاته لصلح المجتمع برمته أو على أقل تقدير صلح معظمه، والحال هذه تؤكد بأن غياب الأوليات تشكل عائقاً أمام من يدعون رغبتهم في إصلاح المجتمع.
اتجاه من يطمح إلى الإصلاح نحو الآخرين دون أن يضع ذاته تحت مجهر عمليته الإصلاحيّة تشف عن جهل وقلة وعي وإشكاليّة متجذرة في ذهنيته، وهي تقوّض نزاهة المصلح، إذ لو كان مصلحاً حقاً لبدأ بإصلاح نفسه قبل غيره، وهذا ما يفسّر نفور عدد ليس بالقليل من أفراد المجتمع من فئة تُدرج ذاتها تحت مظلة المصلحين.
إن لم يكن الفرد صالحاً في ذاته ومصلحاً لمن هم تحت ولايته فإن جهوده الإصلاحية حتماً ستذهب أدراج الرياح، وسينعكس أثر صنيعه سلبيّا على مفهوم الإصلاح في المجتمع حتى تصبح لفظة مصلح مستلبة من دلالتها الحقيقية وعندها يبطل مفعولها الجوهري والهام لمعالجة مشكلات المجتمعات وسلوكيات أفراده غير السويّة.
عملية الإصلاح ليست حكراً على فئة واحدة داخل المجتمع، وليس لها سمات ظاهريّة شكليّة تمنح الإنسان صفة المصلح، كما أنها ليست مناهج دراسية أو شهادات علمية إنما تنشأ بواسطة سلامة الصدر وصفاء السريرة وحب الخير للآخرين والصدق مع الذات وحسن المعاشرة وإتقان آليات التواصل الفعالة والحضارية المنسجمة مع حالة التطور المجتمعي، وهي بذلك مرحلة وعي وإدراك تراعي الأولويات وتهدي المصلح لمعرفة حدوده الإصلاحيّة.
ومن المؤسف أن يتحول الإصلاح الاجتماعي إلى مشروع أيديولوجي يجري التخطيط له خلف الأستار والأبواب الموصدة، ويخضع لأساليب تجميع الحشود وكأنه حالة تمرّد وعصيان تسعى إلى الهدم لا البناء، وتلك السلوكيّات تنم عن تخلّف وتراجع فكري مقيت، وينتج فساداً في المجتمع يتجاوز بمراحل السلبيّات المُراد تجاوزها، كما تتنافى هذه الأفعال من طبيعة المجتمعات المدنيّة التي يجري إصلاح أخطائها عبر مؤسسات الدولة الخاضعة للرقابة والتنظيم.نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أن نعيد للإصلاح هويّته بسنّ القوانين الصارمة للحد من الاجتهادات الفرديّة الخارجة عن دائرة القانون، دون أن نغفل دور المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام في مضاعفة وعي المجتمع بالعمليات الإصلاحيّة الحقيقية، وتعرية الأبناء غير الشرعيين للإصلاح والمنتسبين له عنوة، فنحن بحاجة أيضاً لإصلاح ما أفسدوه.
- ماجستير في النقد والنظرية