وقف (سند) في المحطة مزهواً ببزته العسكرية الأنيقة، وراح يراقب وجوه الناس وهم ينحدرون من القطار واحداً بعد الآخر. كان في الحقيقة يبحث عن وجه المرأة التي يعرفها قلبه، لكنه لم ير وجهها قط. قالت له إنها ستضع على صدرها وردة حمراء ليتمكَّن من أن يميّزها من بين مئات المسافرين.
لقد بدأت معرفته بها منذ حوالي ثلاثة عشر شهراً، كان في المكتبة العامة في تونس عندما اختار كتاباً وراح يقلّب صفحاته، لم يشده ما جاء في الكتاب بقدر ما شدته الملاحظات التي كتبت بالقلم الرصاص على هامش كل صفحة. أدرك من خلال قراءتها أن كاتبتها إنسانة مرهفة الحس، دمثة الأخلاق، وشعر بالغبطة عندما قرأ اسمها مكتوباً على الغلاف باعتبارها السيدة التي تبرعت للمكتبة بالكتاب.
ذهب إلى البيت وراح يبحث عن اسمها حتى عثر عليه في دليل الهواتف، كتب لها ومنذ ذلك الحين بدأت بينهما علاقة دافئة وتوطدت عبر الرسائل الكثيرة التي تبادلاها.
خلال تلك المدة استدعي للخدمة العسكرية وغادر تونس متوجهاً إلى إحدى القواعد العسكرية التي كانت تشارك في الحرب العالمية الثانية، وبعد غياب دام سنة، عاد إلى تونس واستأنف علاقته بتلك السيدة التي اكتشف فيما بعد أنها في مقتبل العمر وتوقّع أن تكون في غاية الجمال.
اتفقا على موعد للمقابلة، وبناءً على ذلك الموعد ذهب في الوقت المحدّد إلى محطة القطار المجاورة لمكان إقامته. شعر بأن الثواني التي مرت كانت أياماً، وراح يمعن النظر في كل وجه على حدة، لمحها قادمة باتجاهه بقامتها النحيلة وشعرها الأشقر الجميل، وقال في نفسه: هي كما كنت أتخيلها، يا إلهي ما أجملها! شعر بقشعريرة باردة تسلّلت عبر مفاصله، لكنه استجمع قواه واقترب بضع خطوات باتجاهها مبتسماً وملوحاً بيده. كاد أن يغمى عليه، مرت من جانبه وتجاوزته، ولاحظ خلفها سيدة في الأربعين من عمرها، امتد الشيب ليغطي معظم رأسها، وقد وضعت وردة حمراء على صدرها، تماماً كما وعدته حبيبته أن تفعل.
شعر بخيبة أمل كبيرة: (يا إلهي لقد أخطأت الظن! توقّعت بأن تكون الفتاة الشابة الجميلة التي تجاوزتني هي الحبيبة التي انتظرتها أكثر من عام، فأفاجأ بامرأة بعمر أمي وقد كذبت علي!
أخفى مشاعره وقرَّر في ثوان أن يكون لطيفاً، لأنها أسعدته ولمدة أكثر من عام - وبينما كانت رحى الحرب دائرة - بعثت الأمل في قلبه على أن يبقى حياً استجمع قواه، حيَّاها بأدب ومد يده مصافحاً: أهلاً، أنا الضابط سند وأتوقع بأنك السيدة ليلى! قال يحدث نفسه: (إن لم يكن من أجل الحب لتكن صداقة)! ثم أشار إلى المطعم الذي يقع على إحدى زوايا المحطة) تفضّلي لكي نتناول طعام الغداء معاً). فردت: يا بني، أنا لست السيدة ليلى، ولا أعرف شيئاً عمَّا بينكما، ثم تابعت حديثها وقالت: قبيل أن يصل القطار إلى المحطة اقتربت مني تلك الشابة الجميلة التي كانت ترتدي معطفاً أخضر ومرت بقربك منذ لحظات، وأعطتني وردة حمراء وقالت: سيقابلك شخص في المحطة وسيظن بأنك أنا، إن كان لطيفاً معك ودعاك إلى الغداء قولي له بأنني انتظره في ذلك المطعم، وإن لم يدعك، أتركيه وشأنه لقد قالت لي بأنها تحاول أن تختبر إنسانيتك ومدى لطفك. عانقها شاكراً وركض باتجاه المطعم!
عزيز القارئ:
اللحظات الحرجة في حياتنا هي التي تكشف معدننا وطيبة أخلاقنا وأن الطريقة التي نتعامل بها مع الحدث، وليس الحدث بحد ذاته، هي التي تحدد هويتنا الإنسانية ومدى التزامنا بالعرف الأخلاقي.
ظن ذلك الشاب في أعماقه أن تلك المرأة التي تبدو بعمر والدته قد غشته، ولم تكن الفتاة التي بنى أحلامه على اللقاء معها، ومع ذلك لم يخرج عن أدبه، بل ظل محتفظاً برباطة جأشه، تذكّر كلماتها التي شجعته على أن يبقى حياً ومتفائلاً خلال الحرب، وحاول في لحظة أن يتناسى غشها، فكان لطيفاً ودعاها إلى تناول الغداء.
هناك مثل صيني يقول: (إذا استطعت أن تسيطر على غضبك لحظة واحدة ستوفر على نفسك مئة يوم من الندم).
تصوروا لو سمح هذا الشاب لغضبه أن يسيطر عليه، كم يوماً من الندم كان سيعيش؟