د.ثريا العريض
الثقافة ليست مجرد القدرة على القراءة و الكتابة فتلك تقف عند تجاوز الأمية.
الثقافة هي أسلوب حياة . هناك ثقافة جمود, و ثقافة نمو و بناء, و ثقافة حياة و ثقافة تحجر و موت حضاري بطيئ أو سريع. الثقافة البانية للحضارة تتسم غالبا بحرية إضافة الجديد, و استيعاب إضافاته في التراكم المعرفي و البناء المتواصل. وإضافة الجديد لا تقف عند تقليد مستجدات الآخرين, بل تعني أيضا توالد إبداع منبعه الذات و البيئة و مستجداتها.
و الثقافة كأسلوب حياة يتبناه أي مجتمع بشري يحدد العلاقة التبادلية المعرفية و الحراك الفكري بالإبداع و التعبير بكل اللغات التعبيرية التي عرفتها البشرية منذ بدأ إحساس البشر بقدرة التواصل عبر التعبير المقنن .
السؤال ماذا نعني بـ «الثقافة» في مجتمعنا بالضبط, يتبادر إلى الذهن حين نقف لنتأمل مؤسساتنا الثقافية الرسمية تحت مظلة وزارة الإعلام والثقافة و مظلة وزارة التعليم و هيئة السياحة و التراث, و إطار حياتنا العامة , و ما يحكم أو نجح في التحكم في تفاصيلها لتنشيط جوانب منها أو شل مفاصلها في العقود الأخيرة.
حتى عهد قريب كان الأمر واضحا أن الثقافة عندنا نخبوية محدودة عدديا, وشبيهة جدا ببدايات مؤسسات الثقافة الحديثة في الغرب: تسارع التأليف و الترجمة و اهتمام بالمتاحف و التراث و احترام جذور الأصالة و معالمها بالإضافة إلى نشر التعليم.
تحت مظلة وزارة الإعلام والثقافة يقع كل ما يتعلق بالنشاط الثقافي المحلي: الأندية الأدبية و جمعية الثقافة و الفنون و معارض الكتاب. الأندية الأدبية في مدننا الكبرى تكاد تركز على كل ما يتعلق بالكلمة المكتوبة وتشترط أن يكون لأعضائها صلة بالتأليف إبداعا و نقدا ومتابعة للمستجد في العلوم والترجمة. أما جمعية الثقافة والفنون و فروعها في المناطق فهي ساحة أشمل نطاقا و تغطي الفنون التشكيلية كالرسم و النقش و التصوير والنحت و الإبداع الحرفي و التكوينات و المسرح والتصوير الضوئي والسينما, إلى جانب الإبداع اللغوي و التأليف .
ومع توسع وانتشار التعليم وتراجع الأمية لم تعد النخبوية الثقافية محصورة في القارئين والمتعلمين في الخارج. و كل مؤسسات الدولة ساهمت بتبني النشاطات المثرية ثقافيا كالمهرجانات والمعارض, وكذلك بإتاحة فرص المشاركة في الأنشطة و المهرجانات العربية والدولية.
في العقود الأخيرة وبظهور حراك مواز تحت مسمى «الصحوة» تسارعت جهود «حماية هوية المجتمع» تحت مظلة الأسلمة بما في ذلك مؤسساته الثقافية سواء في مؤسسات التعليم أو الثقافة و الإعلام, وبدأت ضغوط توجه متنامٍ لاحتكار التحكم في تفاصيل وروافد النشاطات لمنع روافد الثقافات «الخارجية» من التأثير في التراكم الثقافي المحلي.
باختصار كان توجها لحصر المسموح به من النشاطات في ما يسمح به الطامحون للتحكم غير المعترف به رسميا والمتنامي فعليا في غياب المتابعة و المحاسبة على التجاوزات الفكرية و المغالاة في التراجع من ثقافة « الحياة» إلى ثقافة «الموت».
بدأ التوجس و التخوف من نتائج ثقافة الغلو حين أوصلنا تنامي ممارسة التطرف والإقصاء الى التكفير و شق المجتمع و تهميش الانتماء وحصره فقط في الانتماء الفئوي المذهبي و بتر علاقته بالوطن.
لم تعد الثقافة مجرى مغذيا لتوالد الإبداع, بل بدأت تتراجع الى ركود مستنقع تتوالد فيه الطحالب و الطفيليات و سموم تتضاعف مفعولا حتى أصبح قتل القريب الحميم مفتاحا لولوج جنة ما بعد الاغتيال والانتحار.
من هنا أصبح مصيريا أن يطهر المجتمع ثقافته من سموم شر الغلو, ويحررها للنمو فكريا ومعرفيا و إبداعيا. لا نمو مع التقييد وحجر التجديد.
و سأعود معكم لمتابعة مبادرات التحول ثقافيا, رسميا و مجتمعيا.