د. جاسر الحربش
نحن عرب، لا ترك ولا عجم. الترك والعجم يتعاملون مع مشاكلهم ومصالحهم بطرقهم الخاصة. أحيانا نلتقي مع هذا أو ذاك في المصالح وأحيانا نفترق. الحدث التركي هو المتصدر حاليا، وانغماسنا فيه يعمق خلافاتنا نحن بإضافة مصدر جديد لمهاتراتنا اللفظية المزمنة. الأفضل من التنظير للترك والعجم أن ننظر في الحدث التركي كدرس ونحاول الاستفادة منه.
والآن، كيف كانت المسيرة التركية حتى وصلت إلى الأحداث الحالية؟. استطاع كمال أتاتورك العسكري الصارم لملمة الأشلاء المتبقية من الدولة العثمانية. عقليته العسكرية وإعجابه بقوة أعدائه ونظمهم ودساتيرهم جعلته يقرر القطيعة مع الهوية التركية القديمة، معتقدا أنها الطريق الوحيد نحو تركيا الحديثة القوية. أتاتورك فرض العلمانية بدكتاتورية الجيش وحرم مظاهر التدين في الحياة العامة والتعليم والمؤسسات الحكومية وحتى في اختيار الملابس وألغى الحرف العربي جاعلا التركية تكتب بالحرف اللاتيني.
لأن التجربة كانت علمانية مفروضة بفوهة البندقية لم تحقق تركيا شيئا من التقدم النوعي الذي كان أتاتورك يحلم به، وبقيت دولة فاسدة ومتخلفة وجسدا بلا روح.
الورطة الأتاتوريكية أجبرت العسكر الذين ورثوه على قبول طرح سياسي جديد تحت مسمى الأحزاب الديمقراطية. من هنا بدأت المسيرة التي نرى نتائجها اليوم.
كان رئيس الوزراء علي عدنان مندريس في نهاية خمسينيات القرن الماضي أول رئيس منتخب يتبنى علنا مبدأ المزاوجة بين الديمقراطية العلمانية والتصالح مع الهوية التركية القديمة، وخصوصا المطالبة بضمان حرية التدين. عندما شعرت المؤسسة العسكرية بالخطر على مركزيتها في الجمع بين السلطة والمال، انقلب الجيش على حكومة عدنان مندريس. كان الانقلاب الأول عام 1960م، ولم يواجه بمقاومة شعبية ولا بمعارضة من داخل الجيش، لأن الشعب التركي آنذاك كان فقيرا ومهزوما وممنوعا من الكلام في الحقوق الوطنية. أعدم الجيش علي عدنان مندريس وسجن رفيقه رئيس الدولة محمود جلال بايار حتى أنهكه المرض ومات. تكررت الانقلابات العسكرية في تركيا منذ ذلك الحين بمعدل انقلاب كل عشر سنوات، لكن وتيرة المعارضة الشعبية للعسكر بدأت تتصاعد. الانقلاب الأعنف كان على رئيس الوزراء سليمان ديميريل، الذي تبنى برنامجا مماثلا لبرنامج سابقه مندريس. أحدث ذلك الانقلاب خضات واضطرابات شعبية عنيفة، وأدى القمع العسكري إلى احتجاز نصف مليون تركي في السجون وقتل أكثر من عشرين ألف مواطن.
بعد حوالي عشرين سنة من القمع العسكري واستمرار الدولة الفاشلة جاءت الانتخابات بحكومة رئيس الوزراء تورجوت أوزال، الذي كان أكثر اقتناعا وإقناعا بمزاوجة الهوية والديمقراطية العلمانية، فتحققت لأول مرة في عهده إنجازات تنموية ضخمة. فجأة توفي تورجوت أوزال وهو يتناول كوبا من القهوة يعتقد أنه كان مسموما، ولكن الطريق نحو مسيرة التنمية والتطور الحقوقي أصبح معبدا رغم أنف الجيش.
في الأسبوع الماضي قامت قطاعات من الجيش التركي مرة أخرى بمحاولة انقلاب فاستولت على المفاصل الرئيسية (البرلمان ورئاسة الأركان والجسور والطرق ومحطات الإعلام والقواعد العسكرية) ولكن المحاولة فشلت لأول مرة.
نزول الشعب التركي بالملايين إلى الشوارع ومشاركة أحزاب المعارضة وأجزاء من القطاعات العسكرية في رفض الانقلاب لم يكن من أجل رئيس الدولة ولا حزب العدالة، بل من أجل تركيا بماضيها وحاضرها ومستقبلها. الذي يعتقد بمركزية الزعيم في تلك الاحتجاجات المليونية مازالت تعشش في رأسه عبادة الأشخاص وصنمية المتجبر العادل. أردوغان كان مجرد رمز لنتائج العملية الديمقراطية ونجاح التنمية التي قفزت بتركيا سريعا إلى الأمام.
بالمقابل كانت ثورات الربيع العربي تستعجل التغيير بأي ثمن، والكل يعرف لماذا وكيف كانت الأحوال، ثم كيف انتقلت من السيئ للأسوأ لانعدام الرؤية الشعبية الوطنية المتكافلة.
إذا ماهي الفوائد المفترضة من الدرس التركي؟. الفائدة الأولى هي أن الحصانة الوطنية الوحيدة تقدمها قناعة الشعوب بفوائد التمسك بأنظمة الحكم فيها. الفائدة الثانية هي وجوب الحذر من القبول بالاندفاع لتصفية الحسابات في تركيا خارج إطار التحقيقات العدلية المحايدة. العدد المهول للقضاة الذين تعرضوا للتوقيف منذ اليوم الثاني للانقلاب يثير الفزع. احتمال انتقال التنكيل من القبضة العسكرية إلى قبضة الشخص الحاكم قد يمهد لانقلاب دموي جديد ويعيد كل المنطقة إلى حقبة الانقلابات وإلى إفشال كل تجربة تنموية ديمقراطية في كامل المنطقة.