عبده الأسمري
ارتبط بالفكاهة مبكراً فرسم الفرح، وتأبّط النباهة مستذكراً أنها طريق مختصر لتوظيف الموهبة. اعترف بحسه الكوميدي منذ أن كان طفلاً يبحث عنه رفاق حيِّه ليؤنس أوقاتهم بالدعابة، وتعرّف على حدسه الفطري الذي قاده إلى المسرح شاباً يافعاً يوزع المرح بين ردهات جامعته وحيِّه وبين أقرانه.
إنه رائد فن الكوميديا في السعودية والخليج ناصر القصبي، الفنان والإنسان الذي عزف على وتر الإتقان ليدخل البسمة إلى محيا الجميع، في وقت حلت الكآبة في القلوب واحتلت الرتابة مساحات المشاهدة والاستماع.
بجسد نحيل ووجه جاد تعلوه ملامح العزيمة، كان القصبي يركض جائلاً بين مختبرات الزراعة ومسارح الأنشطة في جامعة الملك سعود، باحثاً عن شهادة علم وريادة عمل مرغماً صراع الدراسة والموهية أن يرضخ لأُمنيتين لا تعترفان إلا بالنتائج.
كان القصبي يسمر ليله وهو يكتب في كشكوله الخاص بعضاً من العبارات والفكاهات ليروض مرحاً مدوياً بداخلة، يبحث عن مسرح ينثر القفشات والضحكات، جامعاً «كوميديا عميقة» ونتائج أعمق لحل قضايا كان يراها بمجهر المبدع ونظرة ثاقبة، كان تشتعل في داخلة تنتظر إضاءات حاضر وإشعاعات مستقبل.
القصبي لوحة فن أصيلة كان ولا يزال بروزاها الأصيل يجمل منازل الطيبين، ويحتل مأوى أجيال أخرى طيلة عقدين من الزمان عندما كان البرنامج الأشهر خليجياً «طاش ما طاش» جزءاً من ذاكرة المجتمع السعودي، بل وخلية جسد ظلت عمقاً روحياً وعشقاً مفضلاً.
ناصر القصبي «معتق» بذكريات نجد محب لأصيل الرياض مغرم بقضايا الوطن غريم لأصحاب الظلال مغنم للإنتاج الدرامي، يعد أمور التنمية أولويات يتعامل مع فنه كعلم ومع جمهوره كلجان تحكيم، ويعامل خصومه بلغة «التجاهل» تارة وأسلوب «التساهل» تارات أخرى .يؤمن القصبي أن «الفن» حياة، لذا انتهج وجود الكوميديا كعلم يحتاج ثقافة وحصافة طالما قضى جل وقته كي يملأها بأدق التفاصيل الاحترافية.
نال القصبي بكالوريوس الزراعة كتخصص، ولكنه تحول بموهبته وعشقه إلى فنان زارع للفرح وإنسان بارع في إضاءة القلوب المظلمة والظالمة «معاً»، وتنوير العقول بحلول مجتمعية في «حلة فنية فاخرة»، استطاع أن يوظفها باحتراف عن طريق السيكودراما وعالجها بطريقته الخاصة، القصبي «وجه حقيقي» للمعادلة الأصعب في نبش القضايا الوطنية والفكرية والمجتمعية وتحليلها، وتحريرها فنياً في قوالب كوميدية ودرامية اعتلت مواد الإنتاج وتعالت كثيراً عن خطوط التكرار والروتينية.
«أبو علي» و«الشيخ عدنان» و«حمود» و«فؤاد» وغيرها لم تكن مجرد شخصيات مرت على شاشة فضاء، ولكنها كانت «فضاء تغلغل إلى عمق إنساني، ارتبطت به أجيال ثلاثة عقود من الأطفال والمراهقين والشباب والراشدين وكبار السن والنساء، ليشكل القصبي «توليفة ساحرة» وظفت الفن كذاكرة لا تصدأ، رغم تغير الإضاءات وتغيير البلاتوهات، وربطت الموهبة كأمل ملأ الأفئدة سعادة وترفيهاً».
أجاد القصبي اللهجات السعودية الصعبة وكان يشكل في شخصياته «تفاصيل واتجاهات وكينونة المواطن السعودي»، واستطاع أن يشكل «منظومة فريدة من الأداء الشعبي» المعتمد على الإيماءات والإيحاءات واللهجات باحترافية عالية، ليس ذلك فحسب، ولكنه تمكن أيضاً من أداء دور الجنسيات العربية لغة وأداء في عدد من الأدوار.
لم يلتفت القصبي لنداءات ودعوات ومهاترات لاحقته في أجزاء من مسلسل سيلفي، بل استطاع بكفاءة عالية أن يوازي السقف المتاح للحرية، وأن يفرض مساحات جديدة جعلت الخطوط الحمراء تتراجع قليلاً، ليمارس الركض في قضايا حساسة وموضوعات أشد حساسية، لينقل للمشاهد «معالجة درامية وكوميديا مؤسساتية»، وصفت مشاهد الجماعات الإرهابية وتنظيم داعش وفكر التطرف وسموم الطائفية والعنصرية. واستطاع اختصار المشهد واحتضار النهاية في قالب كوميدي ودرامي فريد.
عشرات الأعمال بدأها القصبي بمسرحية «التائه» على مسرح الجامعة، ثم مسيرة ضمت أعمال طاش ما طاش وعودة عصويد وحمود ومحيميد والقصر وخلك معي وأبيض وأسود وكلنا عيال قرية وجارك يا حمودة وأبو الملايين وسيلفي وغيرها، ومشاركته أيضا كعضو لجنة تحكيم في برنامج أرابز غوت تالنت، وحصوله على العديد من الجوائز في عدة مهرجانات، وبلغة الأرقام والنتائج اختطف القصبي وبالإجماع الرقم الأول في ساحة امتلأت بالعمالقة، فكانت له «روحه الخاصة» و«مساره المنفرد».