د. محمد عبدالله العوين
اتهم الرئيس رجب طيب أردوغان الداعية فتح الله غولان بتدبير الانقلاب الفاشل الذي حدث قبل أسبوعين في 15جولاي عن طريق ما أسماه «الكيان الموازي».
ومن المجازفة الآن تأكيد أو نفي اتهام حركة غولان بتدبير الانقلاب؛ لأن أردوغان قام بحملة تطهير واسعة في الدولة؛ بدءا من الجيش ومرورا بالقضاء إلى القطاع الواسع في المجتمع التركي وهو التعليم، وتذهب التقديرات الآن إلى أن عدد من شملهم الاعتقال ربما وصل إلى سبعة وأربعين ألفا، بينهم مائة واثنا عشر من كبار الجنرالات في الجيش خلاف عشرات الآلاف ممن شملهم الفصل من وظائفهم من قضاة وأساتذة جامعات ومعلمين وغيرهم.
وربما كان لدى الجهات الأمنية مسبقا كشوف واسعة بمن يتشكك في أمرهم ويشكلون خطورة ما، أو قد يتحينون الفرصة للقيام بانقلاب على الحكومة الشرعية المنتخبة ؛ سواء من أتباع حركة فتح الله غولان، أو غيرهم من جنرالات الجيش من المنتمين إلى المدرسة الكمالية العلمانية المتشددة في ضرورة المحافظة على قيمها التي بنى عليها أتاتورك الدولة الحديثة في تركيا بعد انقلابه على دولة الخلافة العثمانية 1923م بتأييد ودعم غربيين، على إثر حروب أوربية عثمانية لم تنقطع ، وسعي أوروبي دائب لإسقاط الإمبراطورية العثمانية، وهو ما حدث بعد أن نخرت سوسة الخلافات والفساد في الآساتانة وشجعت الدول الاستعمارية الأوروبية نزعات الانفصال العرقية والإقليمية تحت ذريعة تأييد حريات الشعوب التواقة إلى الاستقلال من نير التسلط التركي ؛ لكن تلك الشعوب العربية وغيرها استبدلت تسلطا عثمانيا بتسلط أكثر مرارة وألما واضطهادا؛ وهو الاستعمار الطلياني والفرنسي والإنجليزي الذي تم بموجب اتفاقية سايكس - بيكو 1916م وبعد اتفاقية لوزان بسويسرا في 10 من ذي الحجة 1341هـ الموافق 1923م بين تركيا وريثة الدولة العثمانية والحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى التي رسمت بموجبها حدود دولة تركيا الحديثة ونزعت سلطتها على الدول التي كانت تابعة لها في آسيا الوسطى والبلقان والمشرق العربي لصالح الدول الاستعمارية.
لقد كانت الدولة العثمانية التي تتربع على ما يقرب من نصف العالم ، ومنه نصف القارة الأوربية ودول المشرق العربي هما مؤرقا لأوربا، وحين زالت وحصرت في تركيا الحديثة بدستور علماني يقطع أواصر الصلة بالمشرق الإسلامي والعربي ارتاحت أوروبا عقودا من الزمن؛ بيد أن ثمة أوربيين يرون الآن أن تركيا الإسلامية في جذورها العميقة يجب أن تعود مسيحية خالصة كما كانت ، وتعود كنيسة أيا صوفيا محل جامع السلطان أحمد ، ويختفي صوت المآذن من اسطنبول ليسمع بدلا منها قرع نواقيس الكنائس! وتشكلت للمناداة لذلك جمعيات مسيحية ترفع شعارات دينية كنسية متطرفة.
وفي ظلال من تلك الهواجس القلقة من عودة يقظة إسلامية في المشرق العربي والإسلامي سعى مخططو تفتيت الإمبراطورية العثمانية القديمة إلى تفتيت تركتها المتناثرة التي بدأت تتنادى إلى تشكيل كيان عربي واحد أو إسلامي واسع؛ فتم وضع خطة سايكس - بيكو جديدة لتفتيت المفتت على نحو ما بدأ بما سمي بالربيع العربي أواخر 2010م ولا زالت حرائقه مشتعلة.
ومن هنا تمت رعاية حركات وتيارات إسلامية صوفية اجتماعية كحركة عبد الفتاح غولان، أو حزبية كجماعة الإخوان المسلمين ، أو قومية ذات نزعات انفصالية كما هو الشأن مع الأكراد المشتتين في إيران وتركيا والعراق وسوريا وغيرهم من القوميات الأخرى الطامحة إلى الاستقلال بكانتونات عن الدول الأم كالأمازيغ في الجزائر والمغرب وموريتانيا، والانفصاليين في جنوب السودان وغيرهم.
تبنى الغرب وأمريكا حركة غولان الصوفية الاجتماعية التي ترى أن الإسلام عبادة خاصة بالفرد، ولا شأن له بالحياة السياسية، وهو تربية روحية تطهرية وأخلاقية ذاتية حسب مفهوم زعيم الحركة ومنظرها ومفكرها عبد الفتاح غولان مما يساعد على أن يكون الخطاب الديني الصوفي ورقة شرعية لاستعمار جديد يرسم حدود خرائط المنطقة العربية والإسلامية.
إن أهمية قراءة الانقلاب الفاشل وتداعياته القريبة القادمة تكمن في ما يهيأ للمنطقة الإسلامية بعد أن أدخلت دول عدة في المنطقة العربية إلى أتون لهب الثورات العبثية المدبرة التي أتت على الأخضر واليابس في أربع دول عربية.
ليس المهم أن يظل أردوغان رئيسا، أو يبقى حزب «العدالة والتنمية» مهيمنا ؛ فهذا اختيار الشعب التركي وهو صاحب القرار؛ بل المهم أن تبقى تركيا نفسها غير مقسمة ولا ملتهبة جزءاً أصيلاً من الخارطة الإسلامية وركنا قويا في المجتمع الإسلامي.