هاني سالم مسهور
شكّلَ صعود «داعش» للمشهد السياسي في أعقاب العواصف السياسية التي ضربت عدداً من الدول العربية في 2011م حقيقة مجردة وهي أن الشرق الأوسط أمام مرحلة مختلفة، فالصورة الذهنية التي اعتادت على نمطية الخريطة العربية التي نشأت عبر تعرجات رسمها معاً سايكس (و) بيكو، تلك الخريطة مَزقت الحُلم العاطفي قومياً وحتى ما هو أبعد ذلك، فلم تعد (الوحدة العربية والخلافة الإسلامية) غير حُلم يطارده مهووسين باستعادة ما مزقته سنة 1916م.
في مراجعة وكذلك مقارنة بين مسافة قرن هي عمر (سايكس بيكو)، وتحت ضربات «داعش» الوحشية التي تضرب باستمرار في بلاد العراق والشام علينا أن نُقر بالتفوق الغربي الذي نجح قبل مائة عام من رسم الخريطة العربية بعد أن تمكّنَ من فرض هيمنته وقام بهيكلة الشرق الأوسط.
منذ مطالع القرن العشرين حددت الإمبراطورية الروسية (1721 - 1917) نطاقها في الشرق الأوسط بالسيطرة على أفغانستان وبلاد فارس، وتزامن ذلك مع أفول الإمبراطورية العثمانية وحضور الدول الاستعمارية في ذات المنطقة من العالم.
يبدو الربع الأول من القرن العشرين زاخراً بأحداث وتصادمات أصغرها هي توقيع اتفاقية ( سايكس - بيكو) فانهيار الإمبراطوريات العثمانية والروسية والنمساوية والمجرية والألمانية وحتى اندلاع ما عُرف بـ(الثورة العربية الكبرى) كان مجرد مخاض لشرق أوسط خرج من الاستعمار الأجنبي إلى الدولة الوطنية التي تشكلت وفق رغبة القوى الدولية، حدث ذلك مبكراً في حين أن هذه الدول وخاصة العراق وسوريا ولبنان والأردن احتاجت إلى ما يقارب الثلاثة عقود لتظهر سياسياً.
تساؤل بحضر في هذا السياق.. لماذا احتاجت الدول العربية إلى هذه الفترة الطويلة لتظهر بينما ظهرت الدول الأوروبية في سنوات أقل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945م مباشرة..؟؟، الإجابة هي المضمون الذاتي للعرب وكذلك للأوروبيين، فالعرب بمختلف ايدلوجياتهم الإسلامية أو القومية لديهم الدوافع نحو إما (الوحدة العربية أو الخلافة الإسلامية) بينما المجتمع الأوروبي الذي دفعته الحربين العالميتيين للاندفاع القوي باتجاه بناء دولته الوطنية أولاً ثم الدخول في إطار الاتحاد الأوروبي، فالفكرة في أوروبا تقوم على التوجه نحو تعزيز الاقتصاد أولاً ثم تأتي بقية الاشتراطات الأخرى.
الوحدة الثقافية العربية حقيقة كاملة، لكن الوحدة السياسية تبقى غير موجودة لمسببات مختلفة غير أن رواد الأيدلوجية القومية أمثال ساطع الحصري وميشيل عفلق وكذلك مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا عملوا كل من جهته على وضع الوحدة السياسية كرأس لكل المنظومة الأخرى التي تشمل مكونات الدولة، الطرفين الإسلامي والقومي لم يتركا مساحة حقيقية للاستفادة من الميراث الحضاري العميق الذي يعود إلى عصور قديمة في الشرق الأوسط، لذلك حدث ويحدث وستحدث الاصطدامات العنيفة بين دعاة تلك المشاريع أكانت قومية أو إسلامية.
كل هذا يقودنا إلى النظر لمنظومة تعيش قدراً من النجاح وهي مجلس التعاون الخليجية التي وجدت في أن تلتقي بعد أن ظهرت الثورة الإسلامية في إيران واندلعت شرارة الحرب العراقية الإيرانية، فكان لا بد وأن تجد هذه الدول سبيلاً للبحث عن إطار جامع، نجحت دول الخليج بقدر الواقعية السياسية، وهذا هو الجزء الأهم نظراً لأن الفكرة ليست في وحدة تعني إلغاء الحدود بل الدفاع عن المجتمعات الخليجية بوحدة قرار، لذلك تجاوزت الكويت محنة الغزو في 1990م، ووجدت الإمارات العون في أزمة أسواق المال العالمية في 2008م، واستطاعت البحرين الاحتفاظ بكيانها مع تدخل قوات درع الجزيرة في 2011م، وها نحن أمام خوض هذه المنظومة تجربة استعادة اليمن من القوى الخارجية، هذه النجاحات التي لم تفرض الوحدة السياسية على هذه المنظومة تعتبر أنموذجاً حسناً ويستحق عناية أكثر في ظل استمرار حديث جدلي عقيم حول مشروعية الوحدة القومية أو فرض وحدة بلدان المسلمين، فالتقسيم ليس هو القضية بمقدار استشعار الدور للفرد في قدرته على الارتباط الفعّال بمشاريع الاستقرار والأمن والتنمية.
نجحت الدولة الوطنية عبر مجموعة القيم والموروثات الذاتية التي أفرزتها المجتمعات التي آمنت بقدرتها على الثبات والانطلاق تالياً، ذلك النجاح هو نواة التحالفات التي تفرضها احتياجات الدول، فمثلاً العلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا تبدو نموذجاً كأعرق التحالفات المؤثرة عالمياً، كما أن فشل القوميين والإسلاميين في مشاريعهم الجامعة يعزز مرة أخرى التحالفات الثنائية أكثر فحرب اليمن كشفت محوراً سياسياً وعسكرياً بين الرياض وأبوظبي أثبت قدرته في التعامل مع دراماتيكية المتغيرات، لذا فإن ترسيخ الدولة الوطنية في الشرق الأوسط هو منطق صحيح يستطيع في أصعب الاختبارات أن يعبر إلى الاستقرار المستدام.