د.عبد الرحمن الحبيب
أثناء مناقشة المحلل لإطلاق النار في دالاس، قاطعه المذيع بخبر مذبحة نيس، فحور موضوعه مرتبكاً، ثم قاطعه مجدداً بمحاولة انقلاب بتركيا، فصار يتخبط.. عالم سريع التغير غير قابل للتوقع وخارج عن تفكيرنا المألوف، والأخطر أنه خارج عن السيطرة المعتادة.
لا تدري هل تتابع الأحداث المتتالية المتلاطمة التي تهز العالم، أم التقلبات السياسية بالدول المستقرة، أم مثل مئات ملايين البشر تلاحق بوكيمون الذي سنلاحقه في نهاية المقال؟
أما البداية فمن أمريكا: تاجر العقارات الملياردير ترامب ممثل اليمين الشعبوي صار مرشحاً جمهورياً للرئاسة، وكان يقابله في اليسار الاشتراكي ساندرز مرشحاً ديمقراطياً كاد يهزم هيلاري كلينتون ممثلة الوسط.. وفي بريطانيا صارت اليمينية تيريزا ماي رئيسة وزراء وبوريس جونسون الأكثر يمينية وشعبوية صار وزيراً للخارجية يقابلهما زعيم حكومة الظل في اليسار الاشتراكي كروبين.. كذلك الحال في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا واليونان.. فإما يمين شعبوي أو يسار اشتراكي.. فأين الوسط؟
الوسط يتلاشى والمؤسسات السياسية العريقة تتدهور.. قال جورج بوش قبل أيَّام: «أشعر بالقلق من احتمال أن أكون آخر رئيس جمهوري أمريكي» ملمحاً للمستقبل المظلم لحزبه حيث عدد من كبار الجمهوريين قاطعوا مؤتمر الحزب لترشيح ترامب. كذلك خارج العالم الغربي.. خذ مثلاً الهند أكبر ديمقراطية في العالم ومجتمعها المتسامح تاريخياً، فاز الشعبوي اليميني ناريندرا مودي بانتصار ساحق قبل سنتين تحت قيادة حزبه الهندوسي المتشدد بهارتيه جنتا.. ومودي كان متهماً من منظمات حقوقية بتشجيعه أعمال العنف الدينية في غوجارات، وقاطعته أمريكا وأوروبا على مدى عقد قبل أن تستأنف الاتصالات معه مؤخراً!
وفي تركيا ما أن تفاجأنا بالتحولات التي عملها أردوغان بالتطبيع مع إسرائيل ثم روسيا ثم أرادها مع سوريا، حتى باغتتنا محاولة انقلاب فاشلة وكنا ظننا أنها ودعت الانقلابات العسكرية؛ فتفاجأنا بتداعياتها غير العسكرية. صار عالمنا يخوض انقلابات غير عسكرية من شرق آسيا، ومن قلاقل شرق أوروبا وجنوبها، إلى أمريكا الجنوبية وما بينهما النزاعات المستشرية في الشرق الأوسط التي جعلت من الربيع العربي بؤساً عالمياً حين تمكنت عصابة اسمها داعش من تأسيس دولة هزت العالم بذئابها المنفردة.
فما الحكاية؟ ربما الحكاية تكمن في كلمة واحدة: الخوف! الناس تخاف من التغير المفاجئ الذي قد يؤدي لفقد الهوية والأمان، رغم أنه ليس كل التحولات المفاجئة سيئة، إنما قادة التيارات الشعبوية تستثمر قلق الجماهير بشعارات فاقعة متطرفة غايتها الجنة لكنها تنتهي بالجحيم!
لو أردنا أن نفصِّل الحكاية قد نجدها بطرح المفكر زيجمونت باومان بنظريته «الحداثة السائلة»، أي العالم في حالة سيولة: طريقة في الحياة يتم خلالها إعادة تشكيل مستمرة للعالم بطرق مفاجئة وعالية المجازفة.. تترابط فيها خمسة تطورات:
أولها أن الدولة الوطنية لم تعد الهيكل الحامل الأساسي للمجتمع، فالحكومات الحالية صار لديها نفوذ أقل بكثير لتقرير الأحداث داخل وخارج البلد.
الثاني، العولمة الرأسمالية التي فرخت الشركات متعددة الجنسية مسببة اللامركزية في سلطات البلدان؛ وإعادة هيكلة المؤسسات وتقليص عدد العاملين وكثرة التنقلات الوظيفية داخل البلد وبين البلدان أربك الاستقرار الاجتماعي.
أما الثالث فهو التقنية الإلكترونية، فالإنترنت هيأ وسائل الاتصال لتدفق المعلومات. لم تعد مؤسسات الدولة متفوقة على الأفراد والجماعات في المعلومات، فصار لهؤلاء خياراتهم التلقائية العشوائية.
الرابع هو أن المجتمعات أصبحت منشغلة بالمخاطر الأمنية.
وأخيراً، تنامي الهجرة بحدة أسهم في تغيرات الحياة اليومية للمجتمعات.
المحصلة أن البنى الاجتماعية التقليدية تتفكك وهويات الأفراد تتفكك معها على المستوى الذاتي والوطني.
الآن، العولمة تهز مجتمعات العالم اقتصادياً من تحت فتهتز أكثر من فوق بتقلبات سياسية تتخللها حوادث عنيفة تصل إلى أقصى ما تعرفه الهمجية.. والجسم الاجتماعي للقوميات يترنح يميناً ويساراً غير قادر على الاستقرار حول الوسط.
ترامب يقول إنه سيقود أمريكا ضد العولمة نحو الأمركة، فهل ينجح دعاة التشدد والانعزال في استثمار القلق الأمني والخوف على الهوية الذي يعتري الشعوب ويستميل عواطفها، أم أن الشعوب تمر بمرحلة تغير انتقالية وستدرك لاحقاً مصالحها الفعلية نحو عالم منفتح ومتسامح متوجهاً نحو التوحُّد؟ فإضافة للهياكل السياسية التي تضم دول العالم رغم ما يعتريها من خلل كهيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الاقتصادية، فثمة هياكل تجمع دول العالم كالمنظمات الدولية للصحة والغذاء والصناعة والزراعة توحد معايير العالم في شتى النواحي المادية.. وأيضاً في النواحي المعنوية تجد اتحادات عالمية رياضية وثقافية وعلمية وحقوقية وبرلمانية تضع أرضية من الأفكار المشتركة بين شعوب العالم. الميزان العقلاني البعيد عن العواطف يرجح الخيار الثاني.
ما بين الخيارين اندلع ضمن المفاجآت هوس يجمع العالم في بوكيمون.. فرغم أنه غير متوافر في كثير من الدول لكن تم الوصول إليه بطرق تقنية ملتوية.. مئات الملايين يلاحقونه، تفوق عددهم عدد مستخدمي تويتر.. وحطمت شركته نينتيندو الرقم القياسي لعدد الأسهم المتداولة في يوم واحد بتاريخ بورصة طوكيو، وفي ظرف أسبوعين بلغت إيراداتها نحو 40 مليار دولار وأرباح بحوالي 20 مليار دولار! عالم يتشقلب، بوكيمون آخر شقلباته ولكن ليس الأخير.. ولذلك مقال آخر.