إبراهيم عبدالله العمار
تشيع صورة عن المبدعين والعباقرة أنهم غريبو الأطوار. هل لها نصيب من الصحة؟ يبدو ذلك، وأكثر!..
كتب ناصر غيمي وهو خبير نفسي أمريكي كتاباً باسم «جنون من الدرجة الأولى»، حلل فيه شخصيات تاريخية وقال إن كلاً منهم عانى من مرض نفسي، وأن بعض هذه الأمراض هي سبب تفوق وإبداع القادة!.. ليس المرض النفسي شراً خالصاً بل له محاسن كهذه. الموضوع قديم.. أرسطو ذكر رابطاً بين الإبداع والاكتئاب لما لاحظ أن الشعراء يميلون للغمِّ والسواداوية، وصار «الشاعر المكتئب» صورة شهيرة.. ومن الناس الذين ناقشهم الكتاب قائد جيش الشمال في الحرب الأمريكية الأهلية، الجنرال تيكومسا شيرمان.
الجنرال شيرمان لا يزال من أشهر شخصيات تلك الحرب الطاحنة في القرن التاسع عشر والتي اشتعلت فيها الحرب بين الولايات الشمالية والجنوبية، وحسب الناس الذين تسألهم -شمالي أو جنوبي- فإن شيرمان إما بطل أو مجرم، ذلك أنه اشتهر بسياسة الأرض المحترقة، فلما كان يتقدم خلال أراضي العدو كان يدمر ويحرق البينة التحتية، كل ما يمكن أن يفيد الجنوبيين من أموال وموارد وأراض وتموينات سواء عسكرية أو مدنية، وكان يبيد المدنيين بلا تمييز، ولو غضضنا النظر عن جرائمه هذه فإن تقييمه من زاوية عسكرية بحتة تُظهر نجاحه، وعدّه البعض من أفضل القادة العسكرية في التاريخ الحديث، ووضعه مؤرخون في زمرة نابليون وروميل.
لما حلل الخبير النفسي غيمي كتابات وشخصية شيرمان ظهر له أنه عانى من علة نفسية اسمها اضطراب المزاج ثنائي القطب Bipolar disorder، وله أعراض معروفة عند الخبراء، ويأتي اسم المرض من أبرز الأعراض وهي أن المصاب يتراوح مزاجه بقوة بين حالتين: حالة الاكتئاب والانطفاء، وحالة السعادة والنشاط. من أعراضه التي استشفّها غيمي من وصف الناس لتصرفات شيرمان هي أشياء مثل العصبية، وقلة النوم، والتشتيت، والكلام الكثير السريع، والنشاط المفرط. لكن المرض أيضاً لديه أوجه جيدة.. من أعراضه التي ظهرت على شيرمان والتي أيّدت وقوّت قدراته القيادية:
1 - واقعية كآبية: المكتئب أكثر واقعية في نظرته للحياة. هذه النظرة أزالت من شيرمان التفاؤل المفرط الموجود لدى أغلب الناس ووضعت مكانه نظرة واقعية حذرة لساحة المعركة وللمستقبل.
2 - التعافي: مرونة نفسية تتيح للشخص أن يتعافى بسرعة من المصائب والعقبات، بدلاً من الانهيار أو التجمد.
3 - إبداع: تفكير خارج المألوف، كان شيرمان بالغ الإبداع عسكرياً.
من أهم أوجه التفكير الإبداعي الذي لاحظه الخبراء في المصابين بالاضطراب المذكور هو التفكير الشامل، فالمبدع يرى أبعد وأوسع من الشخص العادي، ويقدر أن يربط بين أشياء تبدو غير ذات علاقة لا يراها العادي. في دراسة أخذ الخبراء خطب وكتابات قادة الحرب الأهلية الأمريكية قارنوا بين كتاباتهم ولاحظوا شيئاً: كلما زاد تعقيد الكتابة ارتبط هذا مع انتصارات القائد في المعارك. القائد روبرت لي من أشهر قادة الحرب الأهلية، ومن أكثرهم تعقيداً وتطوراً في كتابته (ومن ثم قد يعني هذا تطوراً وتعقيداً في التفكير والتخطيط)، وقارنوا بين كتابته وكتابات القادة الذين تحارب معهم فوجدوا أنه إذا كانت كتابة روبرت أعقد من الآخر فكان هو المنتصر، كما انتصر بقوة على ماكليلان و بيرنسايد وهوكر وهم قادة العدو وأصحاب كتابة بسيطة. تحارب روبرت مع قائد اسمه جورج ميد وانتصر روبرت لكن بمشقة. ما مدى تعقيد كتابات ميد؟.. أكثر من الآخرين، لكن أقل بقليل من روبرت. هل انتصر أحد على روبرت؟.. نعم، قائد اسمه غرانت. درسوا كتاباته فكان هو الوحيد الذي أظهر تعقيداً في كتاباته أكثر من روبرت! يقول غيمي إن شيرمان لم يوضع في تلك الدراسة ولو أنه وُضِع لَتسيّدهم جميعاً لأن تفكيره الذي يظهر في تعقيد وتطور كتاباته يفوق غيره.
ليست العلل النفسية شراً خالصاً، بل أحياناً تُعطي قدرات فائقة للمصابين، لو أحسنوا استخدامها.