م. خالد إبراهيم الحجي
إن ظهور مصطلح القوى العظمى في أوائل القرن التاسع عشر الذي أطلق لوصف الدول الأوروبية القيادية؛ دفع إلى وضع وصياغة مصطلحات عديدة أخرى جميعها تؤدي إلى معنى القوة مثل: القوة الإقليمية، والقوة العالمية، والقوة الشاملة، كما وُلِدت مصطلحات مثيرة للجدل مثل القوة المفرطة، وهذه المصطلحات المختلفة أصبحت بشكل عام مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمكانة التي تحتلها بعض الدول الكبرى؛ فيجعلها قادرة على أن تلعب دورًا اقتصاديًا أو سياسيًا أو عسكريًا على المسرح الدولي أكبر بكثير جدًا مما يناسب حجمها، من حيث مساحتها الجغرافية أو عدد سكانها، ومن ضمن المصطلحات التي ظهرت في تلك الفترة مصطلح الجيوستراتيجية الذي ابتكره (كارل هاوشفور) الألماني الجنسية في بداية القرن التاسع عشر، وهناك إجماع بين الأكاديميين والمنظرين والمهنيين بأنه لا يوجد له تعريف ثابت ولكن المصطلح يؤكد على التخطيط الشامل، وتوظيف الوسائل المختلفة، لتحقيق الأهمية والمكانة الوطنية والأهداف الدبلوماسية والسياسية وتأمين الأصول والممتلكات العسكرية، من خلال الدمج بين العوامل الجغرافية والاعتبارات الاستراتيجية. وعندما نتأمل خريطة العالم السياسية نجد أن المملكة العربية السعودية تحتل مكانًا مرموقًا في منطقة الشرق الأوسط؛ لأنها تمثل محور الاعتدال الدولي، وذلك يجعل صوتها مسموعًا ويُصغى إليه دوليًا في أروقة الأمم المتحدة، وقد تمثل تأثير الصوت السعودي في أكمل صورة عندما تراجعت الأمم المتحدة عن قرارها الأممي بعد صدورة، الذي قضي بوضع اسم تحالف عاصفة الحزم في القائمة السوداء، ثم تراجعت الأمم المتحدة عن قرارها بناء على احتجاج مندوب المملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة، بأن القرار الأممي الصادر أغفل دور التحالف الدولي في عاصفة الحزم، بقيادة المملكة في المساعدات الإنسانية الضخمة التي تقدمها السعودية لليمنيين واستعادة الشرعية لهم. والقوة الاقتصادية شرط أساسي ومقدمة لظهور الدولة كقوة مؤثرة ومسيطرة على المستويين الإقليمي والدولي؛ مع أن القوة الاقتصادية لا تتحول فورًا أو بشكل مباشر إلى قوة سياسية أو عسكرية، فعندما ننظر إلى صعود القوى العالمية المسيطرة السابقة، لا سيما بريطانيا خلال القرن التاسع عشر والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين، ثم انحلال الاتحاد السوفييتي إلى دول عديدة مستقلة، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية في اعقد الأخير من القرن العشرين في السيطرة على العالم لتمثل نظام القطب الواحد، كان دائمًا هناك فارق زمني معتبر بين بداية ظهور تلك الدول كقوات اقتصادية وبين وصولها كقوات رئيسة عالمية مسيطرة، وخلال هذا الفارق الزمني تطورت القوى العالمية المسيطرة وتقدمت في الاكتشافات العلمية، والاختراعات التكنولوجية وعلوم الفضاء والقوة العسكرية للدولة، فتميزت وانفردت بالتأثير الحضاري والسياسي والعسكري إضافة إلى التأثير الاقتصادي.
المملكة العربية السعودية في الوقت الراهن قوة اقتصادية عالمية يحسب لها ألف حساب؛ لأن مستقبل الطاقة كما تتوقعه شركة بريتش بتروليوم في تقريرها «استشراف مستقبل الطاقة 2035م» - وهي إحدى الشركات العملاقة السبع التي تهيمن على صناعة الطاقة في العالم وتُعرف بالأخوات السبع - تتوقع أن يزيد استهلاك الطاقة بنسبة 34 في المائة بين العامين 2014-2035 م، والحاجة إلى الطاقة الإضافية هي نتيجة النمو في اقتصاد العالم، فضلاً عن الارتفاع المتوقع في عدد سكان العالم بنحو واحد ونصف بليون ليصل إجمالي سكان العالم إلى 8.8 بليون نسمة بحلول عام 2035 م. وهذه الزيادة المتوقعة في نسبة استهلاك الطاقة أخذت في الاعتبار نمو الاقتصاد العالمي، وتكنولوجيا الطاقة المتجددة، والتغييرات المستقبلية في الأنظمة والقوانين والتشريعات المنظمة لاستهلاك الطاقة. وعمليًا كل الطاقة الإضافية المطلوبة سيتم استهلاكها من قبل الاقتصاديات الناشئة المتنامية بسرعة، والزيادة في الطلب على الطاقة ستُغير مسارات العرض والطلب على النفط، فخلال الفترة المقبلة إلى 2035 م، ستصبح الولايات المتحدة الأمريكية مكتفية ذاتيًا بالطاقة، ولكن حاجة الصين والهند إلى الطاقة سيزيد من اعتمادها على استيراد النفط، ويرى السيد (بوب دودلي) العضو المنتدب لشركة بريتيش بيتروليوم أن الآثار المترتبة على زيادة الطلب على الطاقة ستتجاوز حدود صناعة الطاقة اللازمة للاقتصاد العالمي الذي يتوقع أن يزيد معدل دخله المحلي (GDP) بمقدار الضعف. ومع تحقيق المملكة لأهداف رؤيتها المستقبلية 2030 إلى جانب تزايد الطلب على النفط خلال الفترة المقبلة نفسها، يتوقع للمملكة أن تمتلك ضعف قوتها الاقتصادية الراهنة التي منحتها مقعدًا في مجموعة العشرين، وفي هذا السياق من المهم جدًا أن نميز بين مكانة السعودية وبين مكانة الدول النامية الأخرى على المسرح الدولي؛ لأن المملكة تتمتع أيضًا بقوة مؤثرة إقليميًا وعربيًا وإسلاميًا، وستظهر نتائج التحول الوطني السعودي بوضوح أكثر بين الاقتصاديات الناشئة خلال الفترة القادمة إلى 2030 م، عندما يكون أيضًا السبب الضمني لخطة التحول السعودي سرعة اكتساب حصة معتبرة من كعكة الاقتصاديات الناشئة؛ فمن الملاحظ أن محيط قوة التأثير الدبلوماسي والسياسي الذي تمارسه السعودية أخذ يتزايد بشكل كبير جدًا خلال السنوات الماضية، وسيصبح أكثر تمحورًا وتفوقًا وتأثيرًا في الشرق الأوسط. واذا بعد زيادة الدور المحوري وقوة التأثير الدبلوماسي والسياسي للسعودية في الشرق الأوسط؟ بالتأكيد نجد أن الظروف مهيأة للمملكة كي تحتل الصدارة والريادة في مجال القوة الناعمة للأسباب التالية:
أولاً: المملكة دولة غنية واقتصادها قوي والشعوب تطمح دائمًا للرخاء وتميل للغنى؛ ولهذا السبب نجد الشعوب لا تتأثر بالدول الفقيرة ولا تقتدي بها لأن تأثيرها مقيد جدًا، على عكس الدول الغنية التي تتصرف من منطلق القوة، وبدون معوقات تذكر للمحافظة على جاذبيتها وقوتها الناعمة التي تتمثل في العلاقات الدولية الحميمة والمناشدة الدبلوماسية والسياسية.
ثانيًا: الانخفاض الحاد في الوضع الاقتصادي الأوروبي وتطبيق خطط قاسية لترشيد الاستهلاك وانشغالهم بالمحافظة على تماسك الاتحاد الأوروبي، وبالتوالي بعد الوضع الاقتصادي الأمريكي الذي ما زال يترنح من آثار الأزمة المالية التي عصفت به في 2008م، وسياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها القيادة الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه صعود نجم المملكة العربية السعودية على المسرح الدولي قوة اقتصادية وسياسية معتدلة في حد ذاته تجعل عملية إضفاء البصمة السعودية في العلاقات الدولية على قدم وساق، وعلى الأرجح أن هذه البصمة السعودية ستبرز بوضوح أكثر خلال الفترة قبل 2030م.
ثالثًا: المملكة العربية السعودية تختلف اختلافًا كليًا عن الدول الغربية؛ لخصوصيتها من حيث طبيعة نظام الحكم وخدمة الحرمين الشريفين قبلة المسلمين وتطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا عامل يؤكد مفهوم «عدم الإلمام»؛ (عدم فهم الغرب للخصوصية السعودية)، فحتى اليوم جميع القوى الرئيسة المؤثرة على المسرح الدولي، باستثناء قوة اليابان النسبية، قوى شرقية وغربية بالدرجة الأولى، والمملكة جذورها التاريخية والحضارية ليست شرقية أو غربية - ولن تكون في يوم من الأيام شرقية أو غربية - وإنما عربية إسلامية، فالمملكة يمكن أن تستفيد من التقلبات والتأثيرات الشرقية والغربية ولكنها تظل قلبًا وقالبًا متميزة ومحتفظة بخصوصيتها، وبالتالي فإن الغرب سيجد صعوبة في الإلمام بفهم خصوصية المملكة؛ ولهذا كثيرًا ما يتم فهمها بطريقة خاطئة من قبل المجتمعات الأوروبية والغربية، والتحدي الذي سيواجهه الغرب في السنوات المقبلة يتمثل في فهم الخصوصية السعودية، وعلى نفس المنوال فإن هذا الاختلاف الثقافي والحضاري العميق بين السعودية والغرب هو السبب في نمو التأثير السعودي المتزايد على المستوى الإقليمي والمسرح الدولي - قدرة الهيمنة- وقوة التأثير السعودي في منطقة الشرق الأوسط تعمل بسرعتين مختلفتين؛ قوة اقتصادية مؤثرة تتحرك في المسار السريع، وقوة التأثير الثقافي والحضاري يقتصر عملها إلى حد كبير في المسار البطيء على الأقل في المستقبل المنظور. وهنا تكمن قوة الجاذبية السعودية على عدد كبير من الدول المختلفة في العالم تمتد من شرق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا مرورًا بالدول الأوروبية إلى أمريكا اللاتينية.
إن السرعة التي بواسطتها يستمر نجم السعودية في الصعود في الشرق الأوسط والمسرح الدولي مرهونًا بالسياسة التي تنتهجها المملكة، ومدى تجاوب الدول الأخرى مع سياساتها. وصعود نجم المملكة العربية السعودية يتميز بالحذر والتأني والعقلانية، لأنها واثقة كل الثقة من مكانتها على المسرح الدولي، كما تدرك أن الخطر الشديد على مكانتها الإقليمية يأتي من بعض الدول التي خافت أن تحتل السعودية مكانها وتزيحها عن مقعدها في التأثير الإقليمي، أو شعرت أنها مهددة من صعود قوة التأثير السعودي في منطقة الشرق الأوسط، مثل: خوف إيران من فقدان قدرتها على إثارة القلاقل وخسارتها للمفاسد التي حققتها، لذلك ستظل تحاول جاهدة تعطيل صعود النجم السعودي بشتى الوسائل وكل الطرق في المنطقة لعجزها عن إيقاف صعوده على المسرح الدولي. والطريق الحميد الذي يجب أن تنتهجه إيران وتابعتها لبنان مع مرور الوقت، في ظل استمرار صعود نجم السعودية، هو القبول والتأقلم معه والتسليم به، كما يجب على إيران أن تتخذ إجراءات جوهرية وتغييرات جذرية عميقة في السياسة التي تنتهجها في منطقة الشرق الأوسط ابتداءً بالتوقف عن إثارة القلاقل والكف عن دعم الإرهاب. وفي الوقت الراهن تشير الانقسامات السياسية في الدولة اللبنانية بين رافض ومؤيد لتبعية إيران أنها ربما تكون أكثر تأهيلاً واستعدادًا لتقبل الواقع الجديد، والتأقلم مع متطلبات الجيوستراتيجية السعودية أكثر من إيران التي لا تزال في حالة إنكار لصعود النجم السعودي، في منطقة الشرق الأوسط وعلى المسرح الدولي.
الخلاصة
إن موقع المملكة العربية السعودية الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط ومعالجتها لقضايا المنطقة ورؤيتها العقلانية للشؤون العربية والإسلامية عزز أهميتها الدبلوماسية ومكانتها السياسية في الشرق الأوسط وعلى المسرح الدولي فجعلها مركزًا للجاذبية لعدد كثير من قيادات الدول في العالم.