إن من الأدوار التي نمارسها في تجربتنا الأرضية التي نعيشها الآن بشكل أو بآخر الإشراف أيا كان نوعه؛ إشراف في أسرة كما هو دور الأم والأب, أو إشراف في تنظيم حجاج, أو إشراف على طلاب جامعة, أو إشراف في تنظيم مسافرين, أو إشراف على المدرسة سواء كان داخليا من قيادة المدرسة أو خارجيا من خلال مكاتب الإشراف. وهذا يؤكد لنا أن الإشراف دورٌ قلَّ منا من لا يمارسه. ويبقى السؤال العميق: هل نحن نعي دورنا الإشرافي في هذه التجربة التي نحن فيها؟ وكما أكدت في مقالاتي السابقة بأن الوعي يمكن اعتباره بأنه حالة من الاستعداد واليقظة العالية فكريا ومشاعريا وهو أشبه ما يكون بقمة من القمم وكل من كان على قمة فالأصل أنه يستطيع أن يمارس دور الإشراف. إذن هناك وجه ارتباط بين الإشراف والقمة من حيث إنك كي تمارس هذا الدور الإشرافي فلا بد أن تكون سابقا في مسيرك إلى قمة تَرى من خلالها ما لا يراه الآخرون وهنا نلفت الانتباه إلى أن جزءا من تساقط الوعي الإشرافي مسألتان: الأولى؛ أن تعتقد أنك على قمة وأنت لست كذلك، والثانية؛ أن تكون على قمة ومن هم تحت إشرافك ورعايتك يفوتونك ويسبقونك إلى قمم أخرى فتكون برامجك ضعيفة ومملة ورتيبة والتفاعل فيما تقدمه ضعيف وتكون ساحة للتندر وعدم الإشباع. ثم يتفرغ من إجابة السؤال الأول؛ سؤال لا يقل عمقا عن الأول وهو: كيف هو وضع قمتك التي أنت فيها أيها المشرف!!سواء كنت أبا أم زوجا أم أستاذا أم قائد مدرسة أم مشرفا؟ إني أريد أن أتجاوز التعاريف العلمية للإشراف وأذهب إلى ما أعتقده النموذج الإدراكي الكامن في العملية الإشرافية ألا وهو: البناء, وإذا استقرينا على ذلك فلنقل بأن شعار القمة سابقة الذكر بدأ يتضح وهو البناء. وبعد هذا الشعار الخفّاق المرفوع على القمة الإشرافية نتسأل مرة ثالثة عن الأدوات الفاعلة لك في قمتك؟ ولعل أول أداة وأهمها هي أن تستشعر حسّ المسوؤلية فيما أنت تمارسه إذ من المؤكد مثلا أن قائد المدرسة الذي لديه إحساس بالمسؤولية عالٍ بأنه سيولي جميع الأنشطة التعلمية والتعليمية في مدرسته اهتماما ورعاية يختلف كل الاختلاف عن ذلك القائد المنخفض لديه ذلك الإحساس. وقل نفس الشيء عن الأب المستشعر لحس المسؤولية تجاه تربية أولاده فمن المؤكد بأنه لن يتشابه هو وأولاده؛ مع ذلك الأب وأولاده المنخفض لديه ذلك الإحساس بالمسؤولية. والأداة الثانية هي ثلاثية (تنظيم ونظام وانتظام) -وهي إحدى ثلاثيات الأيوتيريك- فمن المهم لك أيها المشرف أن تعي أهمية أن تفعل التنظيم في عملياتك الإشرافية لأن التنظيم يسوقك إلى الوضوح وترتيب الأولويات والتنفيذ بشكل سلس وكذلك أن تفهم آلية سير النظام الذي تعمل فيه لتتمكن من المساعدة في الإشباع والبناء ثم أن تستمر في الانتظام بشكل يُمكنُك من الإفادة والاستفادة. والأداة الثالثة أن تكون أنت المصدر في المعرفة لتشبع احتياجات من تنالهم عملياتك الإشرافية وكن على ثقة بأن لديهم من الإدراك ما يجعلهم يعرفون أنك مصدر معرفة فيزداد احترامهم لك أو أنك خلاف ذلك فلا تحصل على تلك المنزلة ولنأخذ مثالا على أصغر خلية في المجتمع وهي الأسرة فكيف نتصور أبًا أو أمًا على سبيل المثال لا يوسع دائرته المعرفية- لا سيما في زمننا هذا الذي انفتح فيه كل شيء على أولادنا- بأن يكون مصدرا لأولاده خصوصا إذا بلغوا سن الرشد وبدأت الأسئلة تتزاحم وتتكاثر وهنا يحضرني مثال لأحد الآباء من المهتمين لئن يكون مصدرا؛ فلما لاحظ ظهور اضطراب في مشاعر أحد أولاده استطاع بحكم أنه مصدر ويملك معرفة ومعلومات أن يساعد ولده على التوازن من خلال إلحاقه بأحد الدورات النفسية ما جعله يتجاوز مسألة التخبط أو التراكم لتلك المشاعر ومن ثم تحولها إلى عقدة فتتأخر الحالة في التشافي. ولو انتقلنا إلى نسق الإشراف الذي تمارسه إدارات التعليم فيحق لنا أن نتسأل عن عدد أولئك المشرفين الذين هم مصدر بناء ووعي؛ ومعرفة وإشباع, وعدد أولئك المشرفين المفلسين من كل شيء إلا مجموع أوراقه التي يختمها في نهاية زيارته للمدرسة! إننا لن نتقدم كثيرا ما لم يتقدم مشرفو التعليم ولن أقول كثيرا؛ بل كثيرا كثيرا ولعل هذه فرصة سانحة لوزير التعليم الجديد الدكتور أحمد العيسى أن ينظر بعين فاحصة للإشراف (مآلته وواقعه) وأن يولي القضايا الإشرافية نصيبا وافرا من النظر والتفعيل.
وإننا لو تمعنا في الوعي الإشرافي عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعجبنا أشد العجب من وعيه العالي ولا ريب؛ فرجل مثله موصول بالسماء دعما وتأييد لا شك أنه سيمارس ممارسات خلاّقة ويظهر بوعي جليٍّ تظهر فيه تعاليم السماء؛ ففي أحد الأيام احتاج أن يقترض بعيرا من أحد الرجال فجاء هذا الرجل يطلب من الرسول أن يرد عليه ما أخذ منه وكانت طريقته في الاسترداد شرسة وغير لائقة فثارت ثورة بعض الصحابة وغضبوا إذ كيف يجرأ هذا على هكذا محادثة وبهذه الطريقة وهموا أن يفعلوا به شيئا كنوع عقاب حتى أن الإمام النووي قال بأنه يحتمل أن يكون هذا الرجل يهوديا -واختلاف الديانة أحيانا يكون مظنة بطش- وهنا انظروا إلى ردة فعل المشرف المتزن المليء بالسلام عليه السلام فقال للغاضبين بهدوء وبساطة: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا وهنا يريد أن يوضح للجميع في ذلك المكان ولمن بعدهم بأنه من الطبيعي جدا أن تطالب بحقوقك وفي المقابل أيضا أن ترد حقوق الآخرين إليهم ولا يقف عند ذلك بل يتبع ذلك أمرا لإشباع حاجاته وتوفير حقه الذي يطالب به فيقول: اشتروا له بعيرا وينطلقون ولا يجدون إلا ما هو أحسن مما أقرضه للرسول فيطلب منهم الرسول أن يعطوه ما وجدوا ويقول: أعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء.
وهذا وليعلم كل مشرف وكما أكدنا في أول المقال أيا كون نوعه بأنه ليس من الإشراف الاحتقار والازدراء والتكبر والتشاوف حتى وإن لم تتكلم فإن طاقة أفكارك ومشاعرك الرافضة لمن حولك كموظفيك أو من تشرف عليهم؛ تصلهم ويحسون بها, وإني لأعلم أن هناك من ابتلي الإشراف به وهو قزم من الأقزام وهو كَلٌ على نفسه وعلى الممارسات الإشرافية وعلى من يقوم بالإشراف عليهم أينما توجهه لا يأتي بخير ومثله لا نستطيع أن نقول أنه في قمة مرتفعة بل في قاع سفلي يغشاه طبقات من فوقها طبقات كلها من قبائل السلبيات والعياذ بالله. فبالله عليكم أين هذا والإنتاج؟ وأين هو من شخذ الهمم وتفعيل النوايا لتحقيق أهداف المنظمة سواء كانت أسرة في بيت أو شركة في مجتمع!! وثمة رسالة أحب أن أختم بها الوعي الإشرافي بأنه على مقدار اتصالك بالسماء ستمد بأنواع من الهدايات والإرشادات بشكل لا يخطر لك على بال أنت فقط اتصل؛ وأجِدْ بعده الاستقبال.