د. حمزة السالم
عندما كنت أسمع بعض التعليقات على عقليات العسكريين, لم أكن أنكر ذلك -آنذاك- فقد كنت عسكريا وأرى وأسمع أمورا تشهد بذلك، فكنت أتحرق شوقا للخروج لأنغمس في بحار العلم والفكر الذي لم أكن أتصور وجوده إلا في العلم الشرعي. وعندما ولجت إلى العالم الكهنوتي الديني، وانكشفت لي الحقائق، ترحمت على زمان العسكر. فلما أيست من الكهنوت ونصحه وأملت أني قد أعذرت العذر لربي، تركتهم وما يفتنون الناس به، مُيَمَما وجهي شطر عالم التجارة والمال، بعد أن تركت الصدمة الكهنوتية أثرا بالغا في كسر حجب الرؤيا وإنطلاق الفكر من قيد التبعية، فكنت كالمستجير من الرمضاء بالنار.
فطفرة النفط خلقت عمالقة في عالم التجارة والمال، إذا عركتهم لا تجدنهم إلا أقزاما يُلعب بهم كما يُلعب بأحجار الشطرنج.
ومن هان سهل الهوان عليه وظن الناس مثله، واستخف بكرامات الرجال. فلم يكن يخطر على بالي قط أن أحدا من العالمين يتجرأ علي، فيقدم لي عرضاً بشراء كرامتي ووفائي. فما كدت أدخل عالم التجارة والمال حتى رأيت أمورا لا تحتمل إلا تأويلا واحد، وهو الخيانة.
ويالله كم اشمأزت نفسي من التمهيد للعرض. فما من رجل إلا وله ثمن وما من كرامة ولا مروءة تصمد أمام المال. وقد كان التمهيد واضح المعنى ومعلوم النتيجة. وكان ينبغي بي أن أقطع الأمل قبل طرح العرض، فرفض العرض له تبعيات جسام أعرف خطورتها. ولكن نفسي أنكرت احتمالية التجرؤ علي، حتى نزل علي صاعقة العرض بالخيانة مقابل بضع ملايين. فلا أدري حينها ماذا قلت ولماذا نهضت مقاتلا، إلا أن ردة الفعل طارت بالعرض متضاعفا ليصل إلى أن يكسر حد الرقم فيصير عرضا لا حد له. ولعل الله رحمني مما كان سيحدث، بأن هبط علي فتور وسقطت في مقعدي في بدايات دخول حالة إغماء على ما أعتقد. فانفضوا عني تاركين خلفهم جسدا مُهدما وكرامة جريحة وتفاؤلا ضائعا ونفسا كسيرة حسيرة.
وقد كان تعرضي عرضا (لتوسعة خاطري) من أهم الدروس في وجوب المصارحة والشفافية وترك المجاملات السلبية والاتكالية الهدامة وتقديم الأنا على المصالح الوطنية. فقد كنت لا أومن بشائعات الفساد وأرى أنها من المبالغات، ولكني مع ذلك كنت لا أفوت جفوة أو مدخلا ضبابيا. وإن كنت أتنازل عن التطوير، امتصاصا للممانعات، ولكن لا أتنازل عن فجوات ومداخل الفساد.
وأدركت أن عرض «توسعة الخاطر» أبعد مما أتصور تغللا وهيمنة. فالفاسدون ممن باعوا ديارهم وعهدهم وقومهم، بعد أن باعوا شرفهم ونقضوا عهودهم، يؤمنون إيمانا عميقا بأن كل رجل له ثمن. ولكني والله لا أعلم كيف يكون بائع نفسه رجلا، وحرا ليحق له التملك، فيقرر ثمن نفسه ويقبضه، فإنما القرار والقبض لمالكه.
فالمرأة الحرة تجوع ولا تأكل بفرجها. فكيف يكون رجلا وقد نقض عهوده وخان أمانته.
وكيف يكون حرا، ليقرر وهو قد باع شرفه الذي فيه حريته، قبل استلام ثمنه. والعجيب أن أكثرهم يفعله ببرود، وليس ذلك من جوع بل طلبا لتخمة مهلكة.
فهم في مرتبة أقل من الحيوان، فالأُسد وهي من الحيوان تموت في الغابات جوعا وهي حرة، وما ضرها أن لحم الضأن تأكله الكلاب. فلا يضرني أن ركبوا وسكنوا الفارهة من المراكب والمساكن وركبت وسكنت الخشن منها. وتصدروا مجالس الكرام، وغبت عنها. وللحديث بقية.