ياسر حجازي
1 - حتى النقد يحتاج إلى نقد يطوّره ويجعله بمجاراة تطوّر الحالة التي تستدعي النقد، فإذا لم يمارس بحق نفسه نقداً، فإنّه يتقادم ويفقد وظيفته وقيمته. النقد والمراجعة وحرية الإرادة فيهما أداة ووسيلة متلازمة وضرورية لأيّ عمل تريد له أن يستمرّ ويتطوّر بما يحقّق أهدافه؛ وبطريقة أخرى هو جزء من فلسفة الإنتاج، والتأمّل في إنتاج الإنسان وتطوّره -منذ بداية التاريخ المدّون- يؤكد استحالة وجود عمل حقّق النفع والاستمرار والتطوّر والقبول دون نقد ومراجعة وحرية الإرادة فيهما؛ فالنقد على ذلك طبيعة في الوعي نفسه كحال الوهم، وطبيعة بين مراحل الوعي، فالوعي لا ينتقل من مرحلة إلى أخرى دون أن يمارس بحقّه نقداً ينقله إلى وعي آخر. النقد وسيلة مكمّلة لأي طموح علمي يستوجب أدواته: الحرية، التجربة، نقد التجربة، والمحافظة على هذه الوسيلة تستوجب صيانتها من التقادم (والصدأ)، لأنَّ الإيهامَ بوجود نقد –وهو مشلول الإرادة وخرف ومكرور- أخطر من غياب النقد نفسه، لأنّ غيابَ النقد يُحرّض على إيجاده متى ما تحقّقت حرية الإرادة إباحة أو تحديّاً وتقلّبت الظروف لمصالحة نشوئه، أمّا النقد المشلول فإنّه يعطّل من ظهور النقد الذي بإمكانه أن يكون جزءاً عاملاً في التطوّر، كحال العلم المزوّر فإنّه وجوده أكثر خطراً وضراوةً من الجهل وتلقائياته.
2 - لم يعد مجدياً نقد الخطاب الديني والثقافي بالصورة القائمة عليه الآن عند حدود نقد الخطاب الديني كحالة مستقلة عن الخطاب السياسي وتشريعاته، وقد بات عاجزاً عن تحقيق ما يدّعي أنّه يرمي إليه: (فصل الدين عن السياسة)، وهو مبرّر وجود خطاب النقد، وعلى ذلك بات نقد النقد ضرورة لتفعيل هذه الوسيلة وعدم وقوعها مأسورة في منطق بقاء الحال على ما هو عليه.
3 - إنّ أخطر ما يواجه أيّ مشروع، إنما تكون تلك الأفعال والأفكار الخاطئة التي غالباً ما تكون من داخله وعلى درجة عالية من الأهمية، ورغم أنّ تلك العثرات قد تكون في أيّ مشروع يُراد له أن يخرج من إطار التخطيط النظري إلى التطبيق العملي، لكن غياب النقد الداخلي وإحالة عثراته لأمور من خارجه تزيد التعثّر، وتجعل من النقد (عاطلاً عن العمل) لأنّه (يزوّر) مصدر حضانة العلّة؛ فمشروع التنوير والعلمنة السياسيّة ليس يواجه خطراً من خارجه، بل مخاطره غياب النقد للمشروع من داخله، (هل التعثّر كان بسبب وجود حركات الإسلام السياسي على اختلافات مسمّياتها وأساليبها لتحقيق أجندتها، أم أنّ الخطاب الداخلي ما زال يجمع بين السياسة والدين؟)؛ فأنت حينما تمارس نقداً لتلك المقولات والأجندات ثم تحشرها في تيار واحد (الاخوان مثلا) فأنت تدخل لعبة الصراع السياسي وتبتعد عن النقد، لأنّك تصدّر لمخاطر محدودة في زعمك وكأنها غير موجودة في الحركات الشموليّة الدينيّة الأخرى، وكأنّ العلّة هذا التيار وليس الخطاب نفسه. ذلك أن الوقوف عند نقد مشروع تيار إسلامي دون غيره هو صمت على أقل تقدير لتيارات أخرى مماثلة، وهو حتماً نقد يقف عاجزاً عن رؤية أوهامه أو تعارضه الفاضح بين الدعوة إلى العلمانية، ثم حصر مخاطر حركات الإسلام السياسي في تيّار مغضوب عليه دون غيره، ولا يمضي إلى نقد التشريعات الدستورية التي ينفذ منها ما يمكن تأويله على أنه إباحة لوجود هذا الخلط والجمع بين الدين والسلطة.
عثرات مشروع التنوير ودعوة العلمنة السياسيّة ليست قادمة من خصومه، بل -من جانب كبير- من دُعاته أنفسهم، الذين يتقربون إلى السلطة عبر نقد الخطاب الديني السياسي كأنّ السلطة والمجتمع والتشريعات بعيدون عن هذا الخطاب، وهم يستخدمون أساليب خصومهم التي ينتقدونها: (إقصاء بإقصاء) ولا يطالبون بإصلاح تقوده سلطات الدولة لتضيق الخناق على مزاعم الإسلام السياسي بأنه الأكثر التزاما بالإسلام الرسمي ومدوّنته الإنسانيّة الانتقائيّة المعتمدة في كثير من الأنظمة العربيّة الإسلاميّة، طالما هذا الأخير لا يختلف في تدويناته ومناهجه وتشريعاته عن مزاعم الحركات وتأويلاتهم، وهو ما يجعلها تنادي بأحقيتها في تمثيل الدولة والدين لأنّها أكثر التزاماً بالإسلام الرسمي على حدّ مزاعمها؛ هنا، تحديداً، تكمن العلّة: فمَن هو الحاضن لرؤية الإسلام الرسمي؟ وأين تكمن العقلانيّة وواقعيّة التنفيذ: هل في تطوير هذه الرؤية على المستوى الرسمي أم الاستمرار بتقديم رؤى مختلفة تنظيرا، بينما الإسلام الرسمي ما زال يحتضن مدوّنة إنسانيّة انتقائيّة تستغلها حركات الإسلام السياسي في دعوة الانشقاق عن الدولة وتبرير أعماله الإرهابيّة باسم الدين.