د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ومع أنَّ ابن هانئ كان قليل الاهتمام في شعره بالجوانب الفكرية والاجتماعية إلا أنَّ ما جاء مفرقاً في شعره يمكن أن يعطينا فكرة جامعة عن رأيه في الحياة وفلسفته فيها التي تقوم على فكرتين رئيستين هما الاعتدال والواقعية، فليس فيها الخير مطلقاً ولا الشر ثابتاً، بل هما حالتان متقابلتان أو متعاقبتان كالسعادة والشقاء أو الأفراح والأتراح، يقول:
أيها الصبُّ لا تـرع فالليالـي
فرحـاتٌ تشوبـها ترحاتُ
هكذا الحبُّ ضحكةٌ وبكاءٌ
وكذا الدهر ألفةٌ وشتـاتُ
وهي نظرة تدل على شعبية صميمة وصدق صريح في ممارسة الحياة وفهم أحداثها، يقول أيضا:
غرضٌ تراماني الخطوب فـــذا
قـوس وذا سهـم وذا وتْر
فجزعتُ حتى ليس بي جزعٌ
وحذرتُ حتى ليس بي حذْرُ
أما ديوان شعره فيتضمن 63 قصيدة منها 55 قصيدة في المدح الذي كان معظمه في المعز لدين الله الفاطمي، وهو مديحٌ لا يختلف عن هذا الغرض في الشعر الجاهلي، غير أن فيه غلوا ومبالغة إلى درجة التقديس غير المقبول، يقول فيه -تعالى الله-:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقـــدارُ
فاحكم فأنت الواحـد القهـارُ
والله خصك بالقرآن وفضلـــه
واخجلتى.. ما تصنع الأشعار؟
وكأنـّمـا أنـت النبي مـحمد
وكأنـَّما أنصارك الأنصارُ
ومن نماذج مدحه في إبراهيم بن جعفر:
الشمس عنه كليلة أجفانهــا
عبرى.. يضيق بسرها كتمانها
وأُريكَها تَـخْبو على بُرَحائِـها
لم تخفَ مذعنة ً ولا إذعانها
إيـــوانُ مَلْكٍ لو رأتْهُ فارسٌ
ذُعرتْ وخرَّ لسمكهِ إيوانها
ويقول في أبي الفرج الشيباني:
حلفتُ بالسّابغاتِ البيضِ واليلـبِ
وبالأسِنّـة ِ والهِنْدِيّة ِ القُضُبِ
لأنْتَ ذا الجيشُ ثمّ الجيشُ نافلَة
وما سِواكَ فَلغْوٌ غيرُ محْتسَـبِ
ولو أشرْتَ إلى مصرٍ بسَوطكَ لمْ
تحوجك مصرٌ إلى ركض ولا خببِ
ولوْ ثنَيْتَ إلى أرضِ الشآمِ يداً
ألقَتْ إليك بأيدي الذل من كثَبِ
لعلّ غيركَ يرجو أن يكونَ لـه
عُلُوُّ ذكركَ في ذا الجحفل اللّجِـبِ
أما الهجاء فيمتاز ابن هانئ عن غيره بأنَّ ديوانه الذي يضم أكثر من 4 آلاف بيت لا يضم سوى قصيدتين في هذا الغرض، يقول:
رمتَ الملوكَ فلم يبنْ لكَ بينها
شَخصٌ ولاسِيما وأنتَ ضئيــلُ
أتقدُّماً فيهـمْ وأنتَ مؤخّرٌ
وتشبُّـهاً بهم وأنـــتَ دخيــلُ
أما الرثاء فله فيه 3 قصائد أجاد فيها في تصوير مأساة النفس البشرية عند مواجهة الموت، مع ما أودعه فيها من حكم تدور حول الشكوى من الشيب ورثاء الشباب على غرار أبي الطيب، يقول:
قد سار بي هذا الزمان فأوجـفا
ومـحا مشيبي من شبابي أحـرفـــا
إلا أكن بلغتْ بي السنُّ المدى
فلقد بلغت من الطريق المنصفا
أما الغزل فقد جاء حديثه عن المرأة فاتراً عادياً، ولعل هذا راجع إلى ميله إلى حياة اللهو واللعب ومجالس الشراب والغناء، ومع أنه كان يستهل مدحه بهذا الغرض إلا أنه كان مصطنعاً لا عاطفة فيه ولا شعور، ومعانيه تقليدية لا جديد فيها،كمواقف الوداع والشكوى والرجاء والأرق والبكاء من هجر الحبيب، ورغم هذا فقد يوفق في الإجادة، وإن لم تخلبك معانيه فإن جماله الفني يجبرك على متابعته والإعجاب به، يقول في ذلك:
طرقتُ فتاة الـحي إذ نام أهلها
وقد قام ليلُ العاشقين على قدْم
فقالت: أحقاً كلـما جئتَ طارقاً
هتكت حجاب المجد عن ظبية الحرْم
أما في الوصف فمع أن عدد نصوصه في هذا الغرض لا يتجاوز 12 نصا إلا أنَّ مدائحه كانت تتضمن وصفاً بارعاً للطبيعة والأسطول، ويمتد ذلك إلى الناقة والفرس والبرق والسحاب وأشرعة السفن الحربية ونيران المنجنيق، كما أنه له مقطوعات مستقلة في وصف الأزهار والسيوف ومجالس اللهو، وهي في وصفه العسكري لا يقل روعة وفخامة عن وصف أبي الطيب أسلوباً ومعنى، يقول في الوصف:
ألؤلؤٌ دمعُ هذا الغيثِ أم نقطُ
ما كان أحْسَنَهُ لو كان يُلتَقَــطُ
بينَ السّحابِ وبينَ الريحِ ملحمة
قعاقعٌ وظبى ً في الجوِّ تختـرطُ
كأنّهُ ساِخطٌ يَرضى على عَجَلٍ
فما يدومُ رضى منه ولا سخطُ
أهْدى الرّبيعُ إلينا روضة ً أُنُفاً
كما تنفّسَ عن كافورهِ السَفطُ
أما في الحكمة فرغم محاولاته فيها إلا أنه لم يوفق كثيرا، وظل متخلفاً عن أبي الطيب الذي لم ينافسه فيها أي شاعر آخر، وهي تكثر في مراثيه، وأقرب إلى النجاح والصدق منها في أي غرض آخر، ومن جيدها قوله:
لا يأكل السرحان شلو طعينهم
مما عليه من القنا المتكــسِّر
وعلى كلٍّ فإنَّ لنصوص ابن هانئ قيمة أدبية رفيعة تسمح له أن يكون ضمن الشعراء العمالقة رغم الأحكام المغرضة التي أبداها في شأنه أبو العلاء في رسالة الغفران وابن شرف القيرواني، ولعل شدة تعلقه بمذهبه الإسماعيلي، وغلوه في مدح إمامه المعز، قد جلبا له نقمة النقاد القدامى فاستنقصوا من نصوصه وشبهوها بالرحى التي تدور فارغة فيُسمع لها دوي ولا يُرى لها طحن!
ومع كل هذا فقد لقب ابن هانئ بـ(متنبي المغرب)، وهو لقب يكفي للدلالة على المكانة التي وضعه فيها نقاد الأدب القدامى الذين اتفقت كلمتهم مع مؤرخي الأدب على أنه من شعراء الطبقة الأولى ومن أشعر شعراء المغرب والأندلس، غير أنه كان لأفكاره الشيعية في مدح المعتز تأثير خاص على أحكام النقاد وقلة اهتمامهم به وعدم احتفائهم بأدبه، ومهما يكن فينبغي ألا ننسى أنه كان بالنسبة لعصره يمثل مستوى راقياً جدا في الفن الشعري، وكان يعد بحق أعظم شعراء المغرب، ومن أبرز شعراء العربية.
وختاماً فإنَّ من أهم المؤلفين الذين تناولوا هذا الشاعر المتميز بمؤلفات خاصة أفدتُ منها في صياغة هذه المقالة: أحمد حسن بسبح، ومحمد الهرفي، وأحمد خالد، ومحمد كرو، وعبدالحميد العبادي.