كان الغذامي بإيمانه العميق بما يطرح وضيق المسافة بين الذاتي والموضوعي يبدو كمن يمارس دورا رساليا في نشر الحداثة و( البنيوية تحديدا) فكان يذهب إلى كل مكان للحديث عن البنيوية والتعريف بها ولا أزال أذكر بعض عناوين الصفحات الثقافية في الإعلان عن نشاطه النقدي والثقافي، من قبيل ( البنيوية في تبوك) مثلا وغيرها، وكان لا يفوت فرصة للقاء بمن يطلب اللقاء به صغيرا كان أوكبيرا، ولا زال صوته يرن في أذني وأنا أمر في أحد ممرات قسم اللغة العربية في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة قريبا من مكتبه وهو يحدث أحد الزملاء بحماس عن البنيوية وعبد القاهر الجرجاني ونظرية النظم.. إلخ.
كان مكتب التربية العربي لدول الخليج (مديره العام وقتها المرحوم الدكتور محمد الأحمد الرشيد وزير التربية لاحقا) قد أعلن فوزكتاب الخطيئة والتكفير بجائزة المكتب، وقد أقام النادي الأدبي في جدة (كان الدكتور عبدالله الغذامي وقتها نائب رئيس النادي) حفلا تكريميا بهذه المناسبة للكتاب وصاحبه. كان من أهم ما لفت نظري وقتها كلمة أحد أساتذة قسم اللغة العربية الذي بدا سعيدا يطفح وجهه بالبشر وهو يتحدث عن أهمية الكتاب وفوزه بالجائزة وعلاقته العميقة بمؤلف الكتاب وكونه هو من بشره بفوز كتابه بالجائزة، ولم يستطع عقلي أن يستوعب لاحقا كيف أن ذلك الأستاذ نفسه - رحمه الله- كان يديرحربا على الغذامي والحداثة وكل من ينتمي إليها، حربا لم يتورع عن استخدام الطلاب أنفسهم فيها مستغلا حاجتهم إلى النجاح وبعض الدرجات!!
كان قسم اللغة العربية وقتها أشبه بالثكنة الحربية - باستثناء بعض الأساتذة - في مواجهة المنتمين للحداثة بكافة اتجاهاتها، ولم يكن في القسم ممن ينتمون إلى هذا الاتجاه سوى الدكتور عبدالله الغذامي والدكتور علي البطل-رحمه الله- الذي كان يقدم دعما كبيرا للدكتور عبدالله ولشعراء ونقاد وشباب الحداثة مستفيدا في ذلك من ثقافته وخبرته السياسية، وكان يتعرض في الوقت نفسه وبصمود نادر لحرب شعواء من أساتذة القسم المناوئين للحداثة .لم تكن حربا فكرية خالصة بل حربا امتزج فيها الشخصي بالفكري وربما كان هذا الأخير مجرد غطاء للأول لدى بعض هؤلاء. كانت حربا غير نظيفة استخدمت فيها جميع الأسلحة من قبل بعض الأساتذة المنتمين للتيار التقليدي ضد المنتمين للتيار الحداثي (استخدم فيها هؤلاء حتى الطلاب كما أسلفت دون وعي بخطورة إدخال الطلاب في مثل هذه الصراعات). ولا أزال أتذكر أنني في يوم من أيام تلك الفترة وكنت مجرد طالب في السنة الثانية في القسم نشرت مقالا بسيطا (ساهم ملحق جريدة المدينة الثقافي»ملحق الأربعاء» بإبرازه في صفحة كاملة مع صورة الكاتب!!). كان هذا الملحق وقتها من أنشط وأشهر الملاحق الصحفية الثقافية،حيث كان يشرف عليه الأديب محمد صادق دياب- رحمه الله- ويعمل فيه الصحفي النشط وقتها والمذيع حاليا جبريل ابودية.وكان الملحق يستقطب الكثير من الأقلام المهمة في ذلك الوقت مثل الغذامي وسعيد السريحي، وشهد هذا الملحق نفسه المناظرة الشهيرة بين الغذامي والكاتب والمترجم ( الفلسفي ) المعروف أحمد الشيباني رحمه الله.
( كان يكتب فيه أيضا الحداثي التائب (!!)عبدالله سلمان وقصته مشهورة لا أرى أنها تستحق النشر هنا).
كان عنوان المقال البسيط الذي كتبته (قصيدة النثر وموسيقى الشعر) واستشهدت فيه بنموذجين شعريين أحدهما لأدونيس والآخر لمحمد الماغوط. يومها كنت ربما أول القادمين إلى بائع الصحف لأشتري الجريدة والملحق وأرى مقالي ( المقال الأول المنشور في حياتي).
اعتمرت الجريدة واتجهت إلى القسم لا تكاد تحملني قدماي من الفرح لأجد القسم في انتظاري مقلوبا ونظرات الشزر من بعض الأساتذة تخترقني، صادفت في طريقي الدكتور عبدالله الغذامي الذي شجعني وقتها بكلمات من قبيل:(منور ملحق الأربعاء)
ثم فوجئت بأحد الاساتذة يبعث في طلبي للحضور إلى مكتبه بمجرد دخولي انهال علي بكلمات عتاب قاسية من قبيل: كيف تكتب عن أدونيس؟! أنت أكبر من ذلك(!!) ثم ليصل في النهاية إلى القول: المسألة ليست لعبا. المسألة جنة ونار ( !!) هل ترضى أن تدخل النار؟ (!!)
- محمد الدخيِّل