مررنا الأسبوع الماضي بأيام صعبة كان للعاطفة الوطنية فيها نصيب الأسد.. معظمنا لم ينم تعاطفاً مع الشعب التركي حتى أعلن رسمياً فشل الانقلاب، فعدنا لأماننا هانئين.. كانت ساعتان عصيبتين تشمّت فيهما من تشمّت معتكزين على أسبابهم الخاصّة والتي غالبًا ما تتلخص في أسباب تاريخية أو (طمعية), أو (اتهامية).
كنا نهذي بخطابات عاطفية في المجمل العام, بينما المحللون السياسيون وقنوات الأخبار كلّ يغني على ليلاه, فيسكننا من تحليلاتهم الرعب حيناً وحيناً نتشبث ببارقة أمل, مسلمين لهؤلاء الحللين عقولنا, وكأن بيدهم إدارة الكون.
خطاب عاطفي كنا نهذي به, ويحركنا دون شعور منا, ثار فيه من ثار, وضج من ضج, وألقي على الشعب السعودي تحديداً في مواقع التواصل الاجتماعي اللوم في التعاطف مع شخصية يرون بأنها تدعم الإرهاب, وهنا تحديداً ظهر وجهان أحدهما مذهبي صرف والآخر انفتاحي صرف.
مناطق في الداخل تحرك كل منا وأمنياته. تملكتنا فيه مشاعر امتزج فيها الفخر بالخوف والعزة, من مشهد خيار الشعب التركي ورقيه في التعامل حتى مع أعدائه من بني وطنه.
من أجمل ما قرأت حول توصيف المشهد من الداخل ما كتبه الكاتب القدير حبيب محمود الصحفي بصحيفة الشرق على صفحته بالفيسبوك.. حيث قام بتوصيف المشهد توصيفاً دقيقاً كمن أخذ يتابع بصمت وهو خارج الدائرة
يقول الأستاذ حبيب بمنشور أسماه: (إعلام التمنيات):
«ما حدث منا.. هو انقضاضُ كلٍّ منّا على ما توافر له من الأنباء التّركية؛ ليستحلب منها تمنّياتٍ لما يُريد أن يحدث. أنا وأنتَ وأنتِ وهو وهي؛ أعملنا أذهاننا لنعبّر عمّا نتمنى حدوثه. تحوّلت عمليات تلقّينا للمعلومات إلى مرشّحاتٍ معلوماتية؛ تستبعد ما هو خارج الرغبة التي نريد إشباعها,في علم المنطق؛ تعريفٌ دقيق لـ«التفكير» إنه «حركة الذهن بين المعلوم والمجهول» أي أن هناك «معلومات» و«مجهولات»، والتفكير يتحرك من الأولى في التفكير المنطقي المجرد؛ يصل التفكير إلى المطلوب وفق معطياتٍ عقلية مجردة.
وما وقعنا في شِراكه فيما حدث في تركيّة لم يكن تفكيراً منطقيًا، بل هوسًا متأثراً بمعطيات خارج العملية العقلية المجردة المحكومة بالمعلومات. كلٌّ منّا كتب «تمنّياته»، وحسبها «توقعاتٍ»، مستنداً إلى خلفيته المُتراكمة لصورة الرئيس التركي أردوغان..!.
كلٌّ منا تلقّى معلوماتٍ وأعاد إنتاجها طبقاً لمعايير لا علاقة لها بالضرورة مع ما حدث في أنقرة وإستانبول, وحين صحونا.. وجد كلٌّ منّا نفسه يعود إلى «تمنيات» جديدة.
أريد أن أقول: إن ما يحدث منّا أفرادًا، يحدث بشكل أكثر تعقيدًا من مؤسسات وحكوماتٍ ودول, وكلّ منها يتصرف في المعلومات على مقاس الرغبة الموجودة سلفاً. إن ما حدث بالفعل ما هو إلا عبور من منطقة المعلوم إلى منطقة المجهول؛ فالبعض رأي وطنه فيما حدث. لذلك رفض الصورة الطاعنة للأوطان على يد أبنائها, والبعض رأي في سقوط أردوغان خطر على ميوله المتطرف -بحسب رؤيته- والبعض ابتهج لما حدث, والبعض ممن جُبل على التصنيف صنف المبتهجين وغيرهم بأردوغانيين وغير أردوغانيين, وكأن الأوطان تتلخص في شخصية رجل واحد ولا قيمة للشعوب.
بينما المساءلة كانت عند العامة أبسط بكثير من ماوصل له المناوئين لسياسة تركيا؛ معظمهم حللوا كل شيء وفق مطامع الدول العظمى وأمنيات الزعماء, لكن ماذا عن ابتهاج الشعوب وتحديداً في المملكة العربية السعودية على الرغم من عدم اتفاق معظمهم مع سياسة أردوغان الأخيرة.
البسطاء الذين ثاروا على ما حدث، البعيدين عن طمع الكبار؛ ثاروا لأنهم يحبون أوطانهم كانت أمنياتهم بيضاء، وإنسانية في المقام الأول, لا يريدون مزيدًا من دماء الشعوب.. هالهم ما حدث في مصر وسوريا وليبيا وتونس, والعراق, ودول الصراع.. أوجعتهم مشاهد بكاء الشعب التركي, وأسعدتهم قوتهم في تحصين وطنهم ضد الاستلاب.. جددوا صورة الأسلاف الرائعين في تاريخ العظماء, كان تطبيقاً عملياً لقول أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
العربي المكسور في مشاهد القنوات في دول الانقلاب رسم في داخل الشعوب العربية صورة بائسه وخوفه من المآل حتى جاء الشعب التركي العظيم ليقول للعالم لن تهزم شعوب لا تريد الهزيمة، بعد توفيق الله.
- د. زكيّة بنت محمّد العتيبي
Zakyah11@gmail.com