يتفطر القلب بحزنٍ وأسى وهو ينظر إلى ما آلت إليه حال قبلة الثقافة والجمال، ومهد الفنون والآداب والموسيقى، فبلد الرشيد الذي شهد عصراً ذهبياً لثقافة العراق التي رسمت بصمتها بشكل واضح في كل الحضارات العربية والغربية قد صار موطناً يناوئه داعش والحشد الشعبي والحكومة المفلسة. فصاروا يتقارعون على بلد المثقفين والرسامين والأدباء العراقيين الذين ملأوا الدنيا بعذوبة إنتاجهم فأقاموها ولم يقعدوها، بينما هؤلاء المجردون من كل المشاعر الإنسانية التي ترق وتحن يريدون أن يهدموا كل ذلك الجمال ليضعوا فوق الأنقاض عرش خرابهم!
أحقاً أن تلك عراق الحضارة والتراث وثقافة سومر؟ أهذه بلاد الرافدين التي ازدهر العلم بعلمائها في القرنين الثامن والتاسع من الميلاد؟ فكثرت الجامعات وتنوعت الاكتشافات وارتقت العراق بعلم الرياضيات والكيمياء والفلسفة والتاريخ والفلك، بل إن الأمر تعدى لحضارتهم المعمارية التي انتشرت في أصقاع الأرض شتى لما يملكونه من نباهة وجمال هندسي، لتعود لنا الحياة مجدداً وتشعل فتيل التناقض حين تُهدم كل تلك الحضارة العلمية والثقافية والمعمارية وتتحول إلى أنقاض على يد جماعات إرهابية، يحاربون الحياة الطبيعية. غير مهتمين بمكانة الإنسان أولاً وحظوة العراق ثانياً في قلوب من يعرفون ما معنى الجمال؟
هؤلاء لا يريدون أن يبنوا عروش خرابهم فوق أنقاض العراق فحسب، إنهم يريدون أن يسرقوا من آذاننا مقامها الموسيقي الحزين، كما سرق المجرمون آثارها من المتاحف عام 2003م، ذلك المقام الفني المعروف لمئات السنين في بغداد والموصل وكركوك، يريدون أن يستبدلوه بأصوات الطلقات والنيران وصراخ الأشباح في شوارع الموتى والمنفيين أو المارقين من العدالة!
إنهم يريدون أن يمحوا من ذاكرتنا أدب العراق وتراثه القصصي الذي أنتج لنا تلك المنشورات الأدبية الغارقة في وصف الحالة السياسية على الأغلب وقصص السندباد وعلاء الدين وحكاية ألف ليلة وليلة، وشهرزاد، وعلي بابا، تلك القصص التي ترجمت للغات عالمية، فطافت ابتداء من عراقها الأصيل على كل البلدان.
بل هم يريدون منا أن نتوقف عن قراءة قصائد أبو الطيب المتنبي، والفرزدق، وشاكر السياب، ونكف عن ترديد قصائد وأقوال أحمد مطر، لأنهم لا يريدون أن يكون للعراق ذاكرة شعرية زاخرة بأسماء العظماء في الشعر، بل يريدون أن تكون له ذاكرة مشوهة، ملطخة بالدماء الحمراء للقتلى الذين وقعوا ضحية التناحر الطائفي والوحشي. ذاكرتهم الجديدة مليئة بصراخ المنادين على المنابر بمزيد من القتل والهجوم والترويع للآمنين! واستبدلوا حفظ قصائد الحب المكتوبة على نهري دجلة والفرات بقصائد وخطابات تبث الكراهية وتزيد الأحقاد والاحتقان والفتنة!
يريدون أن يشطبوا تاريخ أمجادهم الرياضية في مجالاتها المتعددة، وبطولاتهم الكبرى ليدحضوا كل ذلك بتاريخ جديد لحروب طاحنة يسجل لهم بطولات لا تحفظها إلا ذاكرة المسخ. لقد نسوا أو تناسوا أن العراق تاريخ وحضارات مشرفة، بل إرث ثقافي لا يتزعزع، ولا يُنتزع بتقسيمات جغرافية بين من يدعون إقامة الخلافة ومن يريدون نزع حكمها العربي تاريخياً وجغرافياً ومنحه ولاية الفقيه.
لا... فتلك العراق التي نعرف، ولا نعرف غيرها، عراق التاريخ العريق والمجد البراق العتيق، عراق الثقافة والفنون والأدب، عراق العلماء والأدباء والشعراء، عراق التعايش والتعدد الثقافي البيئي الذي يمنح الأرض مزيداً من الإرث والكنوز المعرفية والثروة الاجتماعية لمن يدركون. أما عراق النزاعات السياسية والحروب الطائفية وتقسيمات الهوية التائهة بين أبنائها، فلا هي من غصن العراق ولا العراق من أضلعها. فهي لا تبني إلا عرش الخراب فوق أنقاض الجمال!
- عادل الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
AaaAm26@