د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبت مع آخرين، أنّ أبرز مظاهر الإرهابيين الذي يظنون أنهم على الصراط المستقيم، وأنّ غيرهم كفار، هو الجهل بالطابع المركب الذي خلق الله به الأشياء، ورتب به القوانين، وبالتالي أدرك به العقل هذه الأشياء والقوانين، فبنى على ذلك المفاهيم بطريقة مركبة.
من ذلك أنّ الغلاة ينحون نحو التبسيطية المخلة، فالأمر إما حق أو باطل، والموقف إما هدى أو ضلال، والألوان إما أبيض أو أسود، والحاكم إما ملاك أو شيطان، والشخص إما مسلم أو كافر، فلا ركيب ولا تنسيب ولا تطييف ولا تعقيد ولا تشابك، وإذن فلا اختلاف ولا اجتهاد ولا عقل، ولا خطأ ولا شك ولا حرية ولا تطوير ولا تحسين، وإنما الأشياء بسيطة حاسمة جاهزة حازمة.
فتكون النتيجة سلبية وأحكامها هدامة واستنتاجاتها مصيبة آزفة ومواقفها داهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة، سرعان ما تتحول إلى إرهاب وعنف دموي.
ويمكننا أن نسرد هنا مثال الأخلاق والطبيعة المركبة لها، وقد أجاد المرحوم عبد الحليم أبو شقة في سبعينيات القرن الماضي، عندما كتب أنه قد يعجب المرء أحياناً من صدور نوعين من السلوك من شخصين نراهما متماثلين في خلق من الأخلاق، ولكن هذا العجب يزول إذا أدركنا أن بعض الأخلاق (مركبة) من خلقين أو أكثر.. ولكي يصدر سلوك واحد من شخصين يستلزم تماثلهما في جميع الأخلاق المكونة لهذا السلوك، ولا يكفي التماثل في خلق واحد:
«- التقوى + إيجابية = ثورة على المنكر. بالمقابل: التقوى + سلبية = صمت على المنكر.
- الورع + تحرر فكري = اجتهاد محكم. بالمقابل: الورع + تقديس للسلف = تقليد وجمود.
- الإخلاص لله + تسامح = تعاون. بالمقابل: الإخلاص لله + تعصب = طائفية.
- العفة + إيجابية = نشاط محتشم. بالمقابل: العفة + سلبية = عزلة خاملة.
- المحبة + يقظة = تعاون. بالمقابل: المحبة + بلادة = عاطفة أو ادعاء».
فالغلاة يركزون أيما تركيز على الانحراف الخلقي التقليدي ويجهلون أو يتجاهلون الانحراف الخلقي الفكري، وهو الأهم والأخطر، ومنهج النبوة هو عكس ذلك كله.
فالاستثمار الفعّال لإنقاذ الأجيال المقبلة يبدأ من نوعية منظومة التعليم المدرسي في أوطاننا العربية، ونشر تعاليم الإسلام المبنية كلها على الوسطية والاعتدال وتقديس كرامة الإنسان...
وأعيد كتابة هذا الكلام، ونحن نستحضر وقائع نيس الفرنسية الإرهابية، عندما قام رجل مؤخراً، وهو تونسي الأصل، بهجوم مروع في عيدها الوطني، ليقوم بدهس حشد من الناس كانوا يشاهدون عرضاً للألعاب النارية التقليدية بهذه المناسبة وليقتل 84 شخصاً على الأقل.
فأي جاهلية يبغي هؤلاء الناس؟ وأي بربرية يرتوون منها؟ وأي دين ينتمون إليه؟ إنها الجاهلية الأولى، إنهم أناس في نفوسهم اختلال وفي عقولهم اعتلال، بعضهم كما هو شأن هذا التونسي وكما نقلته وسائل الإعلام الغربية من أناس كانوا يعرفونه، كانوا يأتون في ناديهم بكل معصية وبكل منكر، وفي رمشة عين غسلت أدمغتهم ليظنوا أنهم أوصياء على الناس، وليس بعض الناس، بل الناس أجمعين، بحكم الأفضلية، وأن لهم بمقتضى ذلك حق فرض ما يعتقدون وإملاء ما يرون على الناس بالذبح والتفجيرات والعنف والقتل والتقتيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هؤلاء في الحقيقة هم الذين يحاربون الله ورسوله، وهم الذين يسعون في الأرض فساداً، يستبيحون أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، وأيديهم من نفث الشيطان لا من وحي الرحمن؛ ومن يعتقد ذلك وأمره مثل هذا وذاك، خليق بالشفقة، حقيق بالعلاج... إن أي دين قام على الحوار، وقام على العقل والعلم، ولم يقم أبداً على السطحية ولم يركن إلى الحناجر، ولم يعتمد على الشعارات، ولم يشهر سيوف القتل والإرهاب، ونهض على الثقافة والعلم، وعمد إلى الحوار الهادئ، والجدال الحسن، ورمى إلى إصلاح العقول والقلوب..
وأخاف إذا استمرت الأمور هكذا، لأنّ الإرهابيين بدأوا يتفننون في وسائل التقتيل البشعة، أن لا يثق في المسلمين أحد، هؤلاء المسلمون الذين وصفهم القرآن بأنهم خير أُمة أُخرجت للناس، وأن تغلق الجامعات الغربية يوماً في وجه أبنائنا، وأن تتوقف عجلة الحوار والبناء، لأنّ الحناجر المحمومة ستأبى ذلك وهاته المرة ستكون من الجهتين معاً، ولترتفع وتدعو إلى الثأر والقتل وسفك الدماء، هذا ما أخشاه.