يدخل الطالب المدرسة تملؤه الفرحة والسعادة، وتزيد إذا كانت مدرسته جاذبة بكل معنى الكلمة، والعكس صحيح. وحين يتكاسل عن الذهاب إليها، ويطلب الغياب نغيّر رأيه ترغيباً وترهيباً. وكم مرة قال أحد أبنائنا بأنه سيغيب؛ لأنه ملّ من المدرسة والدراسة، وقد يغيب يومين أو أكثر فتداهمه جيوش الملل من الوحدة، وإدمان الإنترنت والألعاب الإلكترونية، فيقطع غيابه صاغراً وهو حسير!
تمر سنوات دراستنا، ونحن نمل منها، ونفكر بالغياب أحياناً، وأثناء الحصص ننظر إلى ساعاتنا باستمرار، ونفرح كثيراً إذا أشرقت شمس الأربعاء (سابقاً) أو أشرقت شمس الخميس (الآن)، ونحبس أنفاسنا إذا انخسف قمر ليلتي الجمعة أو السبت، وطالما حدثنا أنفسنا قائلين: أف.... متى تنتهي الدراسة ونتخرج؟ ونفرح أشد الفرح إذا أقبلت عروس العطلة الصيفية تجر أذيالها، والتي كانت أربعة أشهر متصلة، وها هي ستعود أربعة أشهر متصلة بعد ثلاثين سنة. وفي السنوات الأخيرة شاهدنا أبناءنا يفرحون بتعليق الدراسة، ويحزنون إذا لم تُعلق! وكأن سنوات الدراسة ليست من أعمارنا، أو غير محسوبة منها.
للأسف ينظر الغالبية العظمى من طلابنا للدراسة أنها عبء وهمّ، وواجب يجب تأديته؛ لأنهم لا يعطونها حقها الكافي من الاهتمام، والجهد، والوقت غير مدركين مقولة: إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك. ويعتبرونها وسيلة للحصول على الوظيفة فقط، ويا ليتهم ينظرون إليها نظرة أشمل، إنها فريضة إسلامية، ووسيلة للوظيفة ووسيلة لحل مشكلات الحياة.
في دراستي الجامعية أدركت أن أجمل سنوات العمر هي سنوات الدراسة، حتى لو كانت مدرستي غير جاذبة. فنحن على الأقل ندرس في مدارس، وغيرنا يدرس في خيام، أو تحت السماء وبدون إمكانيات، ويقطع الفيافي والقفار للوصول لمدرسته.
في المدرسة نطفئ نار الأمية لمستقبل أفضل، ونكتسب الأخلاق الإسلامية، ونتعلم بعض مهارات الحياة، ونلتقي بأصحابنا، وأقراننا، وأقلها أننا نصرف أوقاتنا فيما ينفعنا.
إن الطالب الذي يفكر بالوظيفة استعجالاً، أو تخلصاً من الدراسة يا ليته يعي أن حاله أفضل من الموظف؛ لأنه مسؤول عن نفسه فقط، وعنده أم تطبخ طعامه، وتغسل ثيابه، وأب يوفر احتياجاته، بينما الموظف مسؤول عن نفسه، وأسرته، وعمله، وربما أهله، وغيرها من المسؤوليات الجسام.
بعد كل سنوات الدراسة الطويلة، أو المملة على حد زعم أكثر طلابنا، ما الذي يبقى منها في أنفسنا، وحياتنا بعد تركها بسنوات؟ قد يقول قائل: بقيت علوم نافعة. ويقول آخر: بقيت ذكريات جميلة، وصداقات فقدتها بعد الدراسة. وقد يقول آخر: لا شيء سوى أنها عبء، ومعاناة، وضرب، وآلام سببها لي معلمون قساة!
إننا سننسى كثيراً من المعلومات التي درسناها، وسيبقى في ذاكرتنا محفوراً ألوان النشاط غير المنهجي: الرياضي، والفني، والثقافي، وغيرها الذي مارسناه في جمعيات مثل: جمعية التربية الرياضية، وجمعية التربية الفنية، وغيرها. حيث كان النشاط يجمع الممتاز والضعيف، ويهتم به الجميع بعكس الدراسة التي لا يهتم بها المهمل.
حين انزوى النشاط غير المنهجي ضعفت جاذبية تعليمنا، وحين يعود بأسس تربوية فلن نرى طلابنا يملون، أو يفكرون بالغياب؛ لأنه يكسر جمود الدراسة بممارسة هوايات يحبونها.
ومسك الختام أن أجمل سنوات العمر هي سنوات الدراسة، وأن النشاط غير المنهجي يبقى محفوراً فينا أكثر من المعلومات التي درسناها.