ميسون أبو بكر
إلى المدينة الحمراء كانت رحلتنا، نقتفي حضارة الأنباط وممالك بقيت آثارها، وأجيالاً من البشر مروا من هناك تاركين إرثا لم يفن، بين نفوش ورسوم خطوها على الجبال الصخرية، أو مدن بنوها وغشّتها الرمال ومعاول الرياح والزمن.
وأنا أزور العلا بعد غياب طويل كانت النشوة تعتريني كلما تذكرت أن هذه المدينة مسجلة ضمن قائمة التراث العالمي في اليونسكو، وكلما رأيت الاهتمام من أبنائها الذين تنبهوا لأهمية المدينة تاريخياً وجغرافياً، فمنهم من أقام نزله الخاص لاستقبال السياح وآخرون فتحوا متاحفهم الشخصية بما تحوي من آثار وكنوز تنتمي لعصور مضت.
لحسن حظنا توافق حضورنا مع وجود رحالة الجزيرة د.عيد اليحيى مقدم البرنامج الذي وجد شهرة وأصداء واسعة «على خطى العرب» الذي رحب به أهل المنطقة صغيرها وكبيرها في مشهد حميميّ، مما يشير إلى قيمة مثل هذه البرامج التي تسهم في تعميق الوعي لدى المجتمع وتعمق إحساسه بتراثه ومكونات بيئته، ينجحها الأسلوب المشوق لليحيى ثم عرض مقاطع رحلاته الاستطلاعية عبر القناة الشخصية له التي يتابعها عشاق التقنية المحلقون في فضاءات الإنترنت المسحورون بعالمه.
لتلك البقعة من المملكة سحرها الخاص، وللزائر أن يتبع حكاية المكان وأنفاسه، وله أن يقرأ بمخيلته تلك الخطوط التي حفرت على صخور العلا الشاهقة عبر العصور وكأنها صرخات الإنسان وتعابيره التي أرادها أن تكون صلة وصل مع الآخر وربما لم يكن يدري أنها ستبقى كوثيقة تخبرنا عنه الكثير.
المابيّات أيضاً التي كان الفضل للدكتور أحمد العبودي الذي شرح لنا عنها الكثير هي من مكونات العلا وآثارها البارزة وهي إحدى المستوطنات القديمة قدم التاريخ..
قلعة موسى بن نصير كانت على مرمى البصر ونحن نتجول في شوارع المدينة القديمة، وما نلبث ننتظر المساء لتنعشنا نسماته وتعلل الروح بعد نهار قائظ حار، ليل تفوح فيه أشجار الغضا، وتنتشر النجمات في سمائه في ليلة مقمرة حالت دون شدة سطوعها.
لأول مرة أتعرف على قراءة الأثر وكم برع فيه العرب، فقد كان سبيلا لاقتفاء الضالين أو قراءة المكان.
العلا ذكرتني أسرها المنتجة بصاحبة السمو نورة بنت محمد آلِ سعود حرم أمير الرياض وبمشاريعها المثمرة في القصيم التي أهلت الفتيات لأعمال حرفية ويدوية وأن يكنّ شركاء فاعلات في مجتمعهن وكنت شاهدة عصر على هذه النشاطات.
فقد تعرفنا إلى أعمالهن سواء في تصنيع منتجات شجرة المورينجا أو إعداد الطعام الشعبي في المنطقة عن طريق الدكتور محمد الحربي الذي تشرفنا بزيارة متحفه الشخصي ومكتبته العامرة بكتب تاريخية قديمة ومخطوطات بالإضافة لنتاجه الفكري وهو نموذج من أشخاص كثر في العُلا..
تسهيل الرحلات عبر مطار الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز ثم مطار المدينة الذي يبعد عن العُلا قرابة الثلاثمائة كيلو الذي أشار عليّ المستشار الإعلامي محمد الحربي بالاطلاع على الخدمات عالية الجودة والصالات الواسعة المرتبة والكوادر السعودية المؤهلة في المكان يعد رئة حية لهذه المنطقة التاريخية الأثرية.
يال النخلات المثقلات بحملهن وأشجار الطلح والسمر والجبال الرملية وأخرى صخرية وكل ما شعرنا أنه امتداد لأرواحنا وغادرناه ولم يغادرنا، بل بقيت تفاصيل الذكريات تشع فينا كشمس المكان وتسافر في ذاكرتنا كقصائد جميل بثينة التي لوحت لنا بوادي الغضا.
سلام على تلك الديار، على نخلها وأهلها، وكل من قصدها يعيد ذاكرة التاريخ والمجد.
تحية لعيد اليحيى الذي حقق في مشروعه رؤية 2030 وكان أنموذجا حيّا للعبور عبر جسر الهوية والتراث إلى بوابة مستقبل مشرق يتكئ على حضارة البلاد ومجدها.
من أول البحر
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى أني إذا لسعيد
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل
إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
يموت مني الهوى إذا ما لقيتها
ويحيى إذا فارقتها ويعود