- ما مدى نمائك المعرفي؟
النماء المعرفي يشرح الصدر وينير العقل ويوسع الأفق، فيخرج الإنسان من ظلمات الجهل لأنوار العلم، ومن ضيق التصور لسعته، فيكون له نظرة جديدة لنفسه وللناس وللحياة فيتعاطى مع نفسه بهدوء، ومع الناس بمرونة، ومع الحياة بتجدد، فلا يظل ذاك الشخص الغرائزي أو الأناني أو المتحزب الغالي لفكرة، أو المولع بركوب الموجات بل هو باحث ناقد متسلسل في أفكاره بمنطق مطرد في حقله العلمي بمنهج، ووقته عامر بما يغذّي العقل، وينعش الروح، فهو في واد والناس في واد لا يلتقيهم إلا على خير وفي خير ولا يصدر منه إلا الخير، وهذا هو النماء المعرفي الحقيقي والذي يتواطأ فيه الحال والمقال والعلم والعمل، ونعلم اليوم أن المعارف والعلوم تتجدد بسرعة مذهلة فما كنا نعلمه قبل عشر سنوات تغير 70 % منه الآن وهكذا، فالواقف على رسوم قديمة أو محطات علمية عتيقة نقول له: قم وانهض وانفض عنك غبار السنين، فالمعرفة جاوزتك منذ زمن بعيد وأنت تلوك مقولات وتجتر معلومات عفا عليها الدهر، وعليه فأنت مطالب بالتأسيس الجيد للحقل المعرفي محل اهتمامك وموضع درسك وبعد إحكام الأصول التفريع عليها بقواعد منضبطة بمنهج علمي مع متابعة كل جديد، وإصدار وفتح علمي في مجالك ولا تكتفِ بذلك فإن العلوم والمعارف اليوم في حالة من التقارب والتداخل لم يشهدها الوعاء العلمي من قبل فلا بد من التعرف على العلوم المقاربة لمجالك والتي تحتاجها أحياناً في بحثك، ولن تتمكن من الإضافة الحقيقية للعلم الذي تدرسه إلا بهذه فإذا كانت العلوم تتداخل ويحتاج بعضها بعضاً لأن الزمن تغير وتداخل وتعقد فكيف تروم التجديد والإضافة وأنت لا تحسن سوى المجال الذي تخصصت فيه، وبالفعل لماذا لا تفكر في الإضافة للعلم الذي تدرسه، أو وضع مقدمة للتجديد فيه، أو بذر فكرة يأتي من يسقيها يوماً ما، ولو تصورنا أن كل بارز في فن من الفنون اليوم أعطى فكرة واحدة ثم جمعت تلك الأفكار وعمل عليها في المؤسسات الفكرية والأكاديميات العلمية على حسب مجالها واهتمامها لفتحنا آفاقاً أوسع في كل علم، ولكان عصرنا عصراً ذهبياً وهو حري بذلك.
النماء المعرفي يبدأ بالنفس، وفقه النفس وخصائص النفس وخصائص نفسك أنت وكذلك معرفة الناس والمجتمع والبيئة المحيطة وخصائص الجيل والموازنة بين الأجيال وأنماط الشخصيات المختلفة خصوصاً القرابات والجيران، وزملاء العمل وقرناء التخصص، وشريك الحياة والفروق الفردية بين الأبناء، والكثير منا توقف على معلومات نفسية تربوية قديمة، وقواعد مسلكية سابقة، ونظرات في الاجتماع التقطها في تاريخه القرائي ولم يضف إليها شيئاً ذا بال في الآونة الأخيرة وأي آونة، لقد تحولت حياتنا الفردية والاجتماعية إلى (آونة) متكررة متغيرة متقلبة بسرعة وسرعة شديدة أيضاً، فالمطلوب اليوم هو اقتطاع جزء من الجهد والوقت المبذول في التنمية المعرفية لأخذ دورات ومتابعة إصدارات ودراسات تتعلق بما مرّ مع عدم إغفال الانخراط العفوي مع الفئات السابقة والانفتاح عليها بشروطها هي لا بشروطك أنت لأنها لن تعطيك لا أقول أجمل ما لديها بل أقول لن تعطيك ما لديها سواءً كان جميلاً أم قبيحاً إلا بذلك، فتتعاطى مع المجتمع بقلب وعقل جديدين لا لتقنع الناس بما لديك بل لتبادل الفهم بينكما، ويكفي هذا لأنه إن كان ما لديك جدير بالاحتذاء فسيتسرب منك إليهم، وتسرق طباعهم من طبعك بسلاسة ولكن برسوخ، فالأفعال أعلى صوتاً من الأقوال.
ومن أول هذا السطر نذكِّر بمعرفة الله فأي نماء معرفي لا يسبقه معرفة العبد ربه فهو نماء ناقص مذموم، وأي نماء معرفي ولو تضاءل مع معرفة العبد ربه فهو ممدوح زاكٍ، ولا نقصد بالمعرفة هنا المعرفة المجردة فإن إبليس يعرف ربه، وفرعون تستيقن نفسه ذلك وإن جحد، وإنما المقصود معرفة الله الجميل الجليل الجبار الجواد. يعيش كثير من الناس على هذه الأرض وهو ضالٌ عن الله، ضالٌ عن معرفة الله، تائهٌ في ظلمات الكون وغمرات الدنيا وتقلبات الحياة، إنه مثل الجمل تجري عليه المقادير وهو لا يدري لماذا أطلق، ولماذا قيّد، ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. الروح شفافة والقلب على الفطرة والوحي السماوي نور يضيء جنبات النفس، فيستنير الفكر، وتصح التصورات، ويسلم القلب من درن الشهوات ودور الشبهات، فيأنس العبد بمعرفة ربه ويقطع الحياة سيراً حثيثاً شوقاً لمولاه الذي خلقه ولم يره، ويكون مباركاً على نفسه وعلى غيره فيفيض بالعطاء حيثما حلّ وارتحل، فإذا عرفت الله بالقوة عرفت نفسك بالضعف، وإذا عرفت الله بالغنى عرفت نفسك بالفقر، وإذا عرفت الله بالقدرة عرفت نفسك بالعجز، وهكذا تبذل ما تستطيع من الأسباب، وتُوكِّلَ الأمر لله في طمأنينة وراحة بالٍ، وتعايش ليالٍ وضيئةٍ تتأمل قمر الإيمان في حال يعجز القلم عن وصفها والمجال لا يتسع هنا لهذا المعنى ولعله يفرد بمقال خاص.
سبق وأن تحدثنا عن التوافق المهني ومدى سعادة من يستيقظ من فراشه منطلقاً إلى مكتبه وهو مشتاق إليه لأنه يحب مهنته والعكس بالعكس، والآن نشير إشارة بسيطة إلى وجوب النمو المعرفي في مجال العمل بداية بمعرفة الحقوق والواجبات وانتهاءً بتطوير الذات واكتساب المهارات الخاصة بمجال الوظيفة، فبعض الناس لديه فصام بين مهنته وحياته العامة وهذا جيد في حدود الحضور النفسي مع العائلة والناس والهوايات بعيداً عن التفكير في العمل، وأنك تنسى كلما يتعلق بالعمل فور خروجك من المكتب ولكن الفصام الذي نعنيه هو أنك لا تجد نفسك في العمل ولا تتطلع إلى الإنجاز من خلاله ومهما تكن وتكن مرتبة وظيفتك إلا أن هناك شيئاً جميلاً تستطيع أن تقدمه للآخرين من خلال عملك إذا تزودت بالمعارف والمهارات التي تخص عملك فستصبح معطاءً من خلاله لتسعد في أول اليوم وآخره.
وهنا أتساءل: هل يحتاج منا أحد أن نوصيه على هوايته وعلى النمو المعرفي فيها، وللأسف بعضهم كذلك والذي هذا حاله لا تنتظر منه البحث والتعلم في مجالات أخرى وإن تعلم فسيظل رقماً بسيطاً في معادلة العلم الذي يدرسه لماذا؟
لأن الشغف والحضور والحياة تكون في الهواية والتي يهرع إليها المرء في أقرب فرصة فراغ فإذا لم يتعلم من خلال هذه الهواية، ويقرأ ما كتب عنها وفيها، ويتابع الجديد ويحاول الإضافة، وبما أن الكلام عن الإضافة وحتى الفن أو التخصص العلمي أو المجال الفكري المحبب إليك هناك مجموعات إلكترونية، وقنوات تيليجرام، ومعرّفات تويتر، وصفحات فيس بوك، ومقاطع ومحاضرات يوتيوب، ومجلات محكمة، وتجارب مدونة وشخصيات بارزة لماذا لا تنهل من كل هذا في مجالات قوتك لتزداد قوة إلى قوتك والسؤال الأخير والأهم في النمو المعرفي (هل تفكر في الإضافة لهذا العلم أو ذاك الفن أو تلك الهواية المحببة إليك؟).
وقبل الختام نوصي صاحب النفس المعطاءة أن يرى الصورة الكبيرة وألاّ يتيه في دروب التنفيذ والعطاء والتدفق الغير مدروس، فوضع إستراتيجية محددة يعين ويسهل التخطيط والتنفيذ بعد ذلك، فإذا كنت تبذل الجهود الكبيرة وتستغرق الأوقات الكثيرة وتعاني من شح النتائج أو المخرجات فارجع للوراء خطوتين، وقس المسافة بين الجهد والنتاج وكبّر العدسة أكثر وأكثر وقرّبها من عينك لتنظر بوضوح أكبر، وأعد بناية المشروع من جديد بإستراتيجية بيّنة المعالم، وهذه الوقفة لا ينبغي أن تكون الأولى والأخيرة بل أنت مطالب بها في كل دورة إنتاجية سواء على مستوى العلاقة (بالناس أو المال أو الفكر) ليس لتغيير الإستراتيجية بل لتطويع الخطط التنفيذية للتمرحل المناسب للزمان والمكان والمجال، وعليه فالإستراتيجية لا بد أن تكون بالمرونة الكافية لاستيعاب تنقلاتك العمرية والفكرية والنفسية وغيرها، وإذا كانت كذلك فستكون أنت مرناً كبيراً في نظرتك ورؤيتك وستتحول جميع العقبات التي كانت تشلُّك يوماً ما إلى محفزات للابتكار والإبداع في الحلول ولا أقول التخطي والتجاوز بل الاستثمار فتستثمر المشكلة لصالحك عن طريق القرارات الجيدة فحياتك قراراتك لأنك في الماضي تتخذ قراراً كل سنة ثم صار ذلك كل ستة أشهر ثم صار كل شهر ثم صار كل أسبوع ثم صار كل يوم فكل ما تكبر ويكبر عقلك وحيز وجودك تتسع دائرة الاحتكاكات بينك وبين (الناس والمال والأفكار) مما يعوزك إلى اتخاذ قرار، فما أنت إلا مجموعة قرارات أخبرني عن قراراتك أخبرك من أنت. إن مجموع قراراتك الصغرى منها والكبرى هي المنجز الحاضر الواقف أمامي والذي نسميه عمراً أو زيداً وعليه فالعناية بالقرارات واتخاذها بالطريقة المناسبة وفي الوقت المناسب هو الذي يحدد نجاحك وفي بعض الأحيان يكون عدم اتخاذ القرار هو قرار في نفسه ولا أقول هو الصحيح بل هو المتاح فلست في كل حادثة مطالب باتخاذ قرار بل إِنّ تحفز النفس وبحثها المحموم عن قرار مناسب في بعض الظروف يعد خطأ فادحاً وكم أتاني من وقع في ورطة وهو يولول ويبحث ويسأل عن الحل فيكون الجواب الحل هو (اللاحل) وعليك بلزوم الهدوء والانحناء لتمر العاصفة أو التوقف عن الاضطراب كي لا تغرق أكثر فإن الماء سيرفعك إلى فوق إذا لزمت الهدوء.