رمضان جريدي العنزي
يا إدارات المرور، نحن مسكونون بصخب الهواجس المرورية، كلما أغلقنا نافذة للوجع، فتحت علينا نافذة أخرى للوجع، وكلما صددنا باباً للريح، جاءتنا ريح أخرى عاتية لتفتح الباب علينا عنوة، أرهقنا الخوف، والفزع صار يجيئنا من الطرقات الرئيسية، وتفرعات الطرق، والممرات الداخلية، لهذا صوتي يلوح لكم من بعيد، مغلفاً بالبياض، ونص ممزوج بالألوان كلها، ليشكل لكم مفردة خالية من الشوائب، لها دلالات عميقة، وأماني عذاب، فكرنا مشتعل، وقلقنا يكبر، والبؤس صار يخر من آهاتنا مثلما يخر صوت الناي من عمق الثقوب، ونصنا يعتمد على المنولوج القديم الذي يقبع في دواخلنا، ولن يمحو شجن هذه البلوى، وعلامات الشحوب، وحشرجات الألم، سوى أنتم يا إدارات المرور. ولهذا أكتب إليكم مباشرة، أبتغي حلاً يزيل الغبش، ويصلح العطب، من دون وصب، ولا عذاب، ولا تعب، فسوقونا إلى الابتسامة سوقونا، وأحطونا بسوار العافية أحطونا، وأسكبونا بالراحة، وخذوا عنا المر الذي حل بنا، وأجعلونا نغفو كما يغفو الحمام على الأغصان.
يا إدارات المرور، أزيلوا عنا الكآبة، فنحن غلابة، نعم غلابة، فالشاحنات الكبيرة هجمت على طرقاتنا الرئيسية ودروبنا الصغيرة وأحيائنا كما تهجم الضباع الغريبة على سور المدينة، فأستباحت أعشاشنا، وداست على أعشابنا، وقتلت مجموعة كبيرة من أصحابنا، حتى غدت هذه الشاحنات الكبيرة مثل ديناصور كبير له أنياب وأظافر ويسيل من فمه لعابه.. فإنسان جريح، وإنسان كسيح، وآخر من الهم طريح، وآخر لديه كآبة، لقد داسوا عنوة على الأرصفة، وتجاوزا الأنظمة، وسابقوا الأنظار، وقطعوا الأشجار، وزاد شرهم واستطار، والناس ما بين هرج ومرج، وكلهم محتار، يجر أنينه، ويعلو عويله، وفي قلوبهم جذوة ما أستكانت ولا هدأت ولا خبت.
هذه الشاحنات يا إدارات المرور، تتعارك في طرقاتنا يومياً كالقطط، تستبيحها بلا خجل، ولا وجل، ولا ملل، هذه الشاحنات أذاقت الناس ملح الأرض، ورمتهم بالشظايا، وخلفتهم بالأوجاع، ورمتهم بالأحزان، حتى غابوا عن الوعي، وضاعت صباحاتهم الندية، وما عادت مساءاتهم تشبه السكر والمسك والنرجس، والإبتسامة عندهم ما عادت إبتسامة، أعمال هذه الشاحنات صارت صلافة، واستعراضاتهم صارت سخافة، ولا عندهم ثقافة، ولا يعرفون قيمة الإشارة، وخريطة الطرق عندهم مستباحة، مثل ثعبان، لا يعرف العاصفة، ولا عنده فاصلة، ويبحث كل يوم عن فريسة، من دون أن يعرف الضحية، والضحية مواطن يعتز بالهوية، لهذه الشاحنات تغطرس، وخشونة قيادة، ولمعان تحدٍّ، وتريد أن تبتلع الناس في فمها للأبد.
يا إدارات المرور، أعرف أن لديكم إدراكاً بالواقع عميقاً، وجهدكم بليغ، وتصوركم راقٍ، وتحاولون إضاءة قناديلكم بزيت العمل، وهم الناس يسكن بؤبؤ عيونكم، ويجري في دمائكم، وكل الحروف التي نكتبها، تسكنونها في عمق أرواحكم، وتزرعونها في جدران قلوبكم، حتى تصبح مثل الشموع، لكننا مللنا ونحن نكتب عن هذه الديناصورات، وتلك الضحايا البريئة، حتى أن كتاباتنا عن هذا الوباء صارت من التكرار عامرة.. وها نحن نبحث عندكم هذه المرة عن فاصلة، ونقطة نظام، ولائحة، فأمنحونا الماء لكي نسقي به أرواحنا العاطشة، فبسبب هذه الأشباح دفنا الأصحاب بالقبور بحزن وقهر، وما عندنا من الأشياء غير الصوت والمفردة، والحبر والمحبرة.
يا إدارات المرور، لقد حولت هذه الشاحنات شمسنا إلى كتلة من لهب، وجعلت من جيولوجيا الدمع مكتنز بالوجع، فأزيحوا عنا الملح والشوك والعليق والوجع، وأغللوا هذه الأفاعي بيد من حديد، ونظام جديد، فالخريطة عندكم، والواقع والشاهد والبرهان، والمنجز عندكم، وسخاء الفعل والعطاء، وصلب النظام عندكم، فاستعجلوا بهذا الأمر لنا، فأجمل الأشياء حين تكون بكراً، مثل أول قطفة في حقل زيتون أو عنب.