د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في أول علاقته بالمجلات الأجنبية « الأميركية تحديدًا وتخصيصًا : تايم و نيوزويك « لفتت نظرَه عبارة بارزة توضع ضمن عمود معلومات المجلة التحريرية والإدارية وتنص على أن المجلة هي المسؤولة عن سفر محرريها وإقامتهم ومعيشتهم ولا تطلب غير تيسير مهامهم.
** انتقلت العبارة بنصها إلى بعض المجلات العربية، وفُهم أن الهدف منها ضمان الموضوعية الكاملة في تقارير مراسليها كي لا يشتريَهم المال « السياسي والاقتصادي «، وما تزال الوسائط المستقلة التي تحترم نفسها ومتابعيها معتمدةً هذا النهج الجيد قولًا وممارسةً، وينطبق على سواها بيت نزار : «سقط الفكرُ في النفاق السياسيِّ وصار الأديبُ كالبهلوانِ».
**ومنذ أن بدأ الربيع العربي والإعلامُ يضجُّ بالتناقض الصادم بين المحطات المرئية في موقفها من طبيعة الثورات ورموزها؛ فالبطل في إحداها مجرم عند الأخرى، وهو ما يعني تأثير الأدلجة الفكرية والتبعية السياسية على كلتيهما؛ فالمسافة بين المقدس والمدنس تتسع لوقوف المتزن الذي يعرضُ الحقائق كما هي ويدعُ لسواه تحديد موقعه.
** ولعل الانقلاب التركي الفاشل ( 15 تموز) قد جلَّى هذا التخندقَ؛ فلم يخفَ التباينُ على ذي نظر، ولأنه كان متابَعًا من الملايين فقد لمسوا حدياتٍ ضديةً عكست بوضوح آراء القائمين على المحطات وتوجهاتهم بما ينافي مبادئ المنهجية الإعلامية الحرة ولتبقى تبريراتهم مثار تندرٍ واستنكار.
** يبقى الدرس الأول المهم الذي يفوت على كثيرين استيعابُه وتمثلُه أن ينأوا عن « الحزبية» و»الأحزاب» مهما كانت طبيعتها؛ فالحرية الفكرية لا تستقيم لحزبيٍّ مهما غلَّف اقتناعاتِه بشعاراتٍ حرة،وفي أول شبابنا كانت مطبوعات جماعة الإخوان تملأُ مدارسنا ومكتباتنا وأصواتُهم تعلو في إذاعاتنا ومنتدياتنا، كما كانت تتسرب بعض كتابات التحريريين ورؤى زعيمِهم تقي الدين النبهاني، مثلما كانت مؤلفات ميشيل عفلق وساطع الحصري وأنطون سعادة ومنيف الرزاز ومحمد حسنين هيكل تُتداول بصورةٍ مكثفة ولكلٍ منهم دعاتُه ومؤيدوه، وبقي أكثرنا خارج صناديق هذه التنظيمات يرى في كلٍ منها ما يؤالفه فيعتنقه وما يخالفه فيقف دونه، وهو ما يحرر الوعي الناضج الذي لا يدين لشخصٍ ولا نصٍ مهما بلغت الإغراءات والمحفِّزات.
** الفكر المنظم لا يشيطن جماعة ولا ينزه سواها؛ فلا يندلق حين تهب الرياح المواتية ولا ينغلق حين تسود الرياح العكسية، وما نشهده - بكل الأسى - تخندقٌ أعمى يجور حين يثور ويبتئس إذ ينتكس وتوشك سفينة الوطن أن تُنتهب بين المؤدلجين الذين أجَّروا عقولهم - لا ضعفًا بل ميولًا - لتنظيماتٍ فكرية وسياسيةٍ فغووا كما غوت ونادرًا ما رشدت.
** ليس حرًا من يبتهج لسقوط زعامة أو قيام أخرى لأنها تعادي زعامةً تختلف مع ما يُفرزه صندوقه المقفل، ولن يكون عدلًا أن نحكم قبل أن نحتكم أو نحاكم.
** الحرُّ يرفضُ الإملاء.