عروبة المنيف
استوقفتني إسطورة إغريقية تقول إن «بروكوست كان حداداً يدعو الزوار للمبيت عنده، فيضعهم على سرير بيته، فمن زاد طوله عن طول السرير بتر الزائد منه، ومن كان أقصر من السرير قام بمد أطرافه حتى تتمزق، والشخص الوحيد الناجي من ذلك الحداد هو الذي يناسب مقاسه ذلك السرير تماماً «!.
تحاكي تلك القصة واقعاً مريراً نعايشه، فنحن نريد من الآخر أن يكون على مقاسنا، فالواحد منا لديه تصورات ذهنية ومقاسات معينة عن ما يجب أن يكون عليه ذلك الآخر، فإن اختلفت تلك المقاسات والتصورات المخزنة في عقولنا عن مقاسات وصور ذلك الآخر الفعلية تبدأ المحاولات الحثيثة من أجل حشره بالقوالب المتوافقة مع أفكارنا ومبادئنا وتوجهاتنا ومعتقداتنا وقيمنا، فإن لم ننجح في مهمتنا، تبدأ محاولات الحداد» بروكوست» بالتفعيل لنستهلها بإطلاق الأحكام الجزافية على الآخرين المختلفين عنا، فهذا «ليبرالي كافر» وذلك «علماني فاسق» أو «سلفي رجعي» و «شيعي صفوي» وربما «سني متشدد»،ناهيك عن النعرات القبلية والمناطقية وغيرها من اختلافات، ليشمل التشكيك في جميع الهويات، فالهوية الصحيحة النقية هي هويتي أنا فقط، أما باقي الهويات فمشكوك بأمرها!.
إن عصر الانفتاح والسفر الميسر والإنترنت ساهم في زيادة وتيرة الاحتكاك بالآخر المختلف في كل شيء، وهذا بدوره ساهم في خلق صراع داخلي مطّرد، حيث بدأ التفكير في حجم الفجوة التي تفصلنا عن آخرين لن تجدي معهم محاولات الحداد» بروكوست» حتى لو قطعهم تقطيعاً ومزقهم تمزيقاً، فهؤلاء حتى التفجير قليل عليهم!.
إن إطلاق الأحكام الجائرة والانتقادات الموجهة للآخر المختلف عنا ينتج عنها صراعات داخلية تتحول إلى معاناة إنسانية لا مبرر لها على الإطلاق، فعدم التعلم والتدرب على فضائل تحمل الآخر واحترام خياراته هي من أهم مسببات تلك المعاناة، وقد كان من الأجدى أن تغرس تلك الفضائل في الطفل منذ الصغر ليرضعها مع حليب أمه، ويتلقنها مع الأبجديات في المدارس، ويستوعبها في مواعظ المساجد، ويتأملها في مجالس الذكر.
كل واحد منا يريد أن يحيا حياة سعيدة، ويختلف كل إنسان في اختيار الطريق الذي يوصله لتلك الحياة السعيدة، فإذا لم ينتهج الآخرون طريقي، ذلك لا يعني أن الآخرين تائهين وأن الطريق الذي اختاروه لن يوصلهم إلى مبتغاهم، بل إن الله بحكمته وفضله وسع لنا أبواب رحمته لندخلها من طرق متعددة ومسارات مختلفة.
إن اختلافنا وتنوعنا هو سر تميزنا، والحكمة الإلهية تقتضي أن لا نكون على مقاس واحد، فأصابع اليد الواحدة مختلفة، والتوأمان من رحم واحد مختلفان أيضاً، ولو أراد خالقنا أن نكون على صورة ومقاسات واحدة لما خلقنا من ذكر وأنثى وجعلنا شعوباً وقبائل مختلفة لنتعارف، فالاختلاف يثري الحياة ويفجر الطاقات الإبداعية فينا. قال تعالى «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين».
ليست اختلافاتنا بحد ذاتها هي التي تقسمنا وتشرذمنا، بل إن عدم مقدرتنا على إدراك تلك الاختلافات وقبولها والاحتفال بها هي السبب في ذلك.