يا مدير عام إدارة المرور بالمملكة، نحن مسكونون بصخب الهواجس المرورية، كلما أغلقنا نافذة للوجع فُتحت علينا نافذة أخرى للوجع، وكلما صددنا بابًا للريح جاءتنا ريح أخرى عاتية لتفتح الباب علينا عنوة.. أرهقنا الخوف، والفزع صار يجيئنا من الطرقات الرئيسية، وتفرعات الطرق، والممرات الداخلية.. لهذا صوتي يلوح لك من بعيد مغلفًا بالبياض، ونص ممزوج بالألوان كلها؛ ليشكل لك مفردة خالية من الشوائب، لها دلالات عميقة، وأمانٍ عِذاب، فكري مشتعل، وقلقي يكبر، والبؤس يخر من آهاتي مثلما يخر صوت الناي من عمق الثقوب، ونصي يعتمد على المنولوج القديم الذي يقبع داخلي، ولن يمحو شجن هذه البلوى، وعلامات الشحوب، وحشرجات الألم، سوى أنت بوصفك مديرًا عامًّا لهذه الدائرة الموقرة؛ ولهذا أكتب إليك مباشرة، أبتغي حلاً يزيل الغبش، ويصلح العطب، من دون وصب، ولا عذاب، ولا تعب.. فسقنا إلى الابتسامة سقنا، وأحطنا بسوار العافية أحطنا، وأسكبنا بالراحة، وخذ عنا المر الذي حل بنا، واجعلنا نغفو كما يغفو الحمام على الأغصان.. يا مدير عام إدارة المرور بالمملكة، أزل عنا الكآبة، فنحن غلابة، نعم غلابة، فالشاحنات الكبيرة هجمت على طرقاتنا الرئيسية ودروبنا الصغيرة وأحيائنا، فاستباحت أعشاشنا، وداست على أعشابنا، وقتلت مجموعة كبيرة من أصحابنا، حتى غدت هذه الشاحنات الكبيرة مثل ديناصور كبير، له أنياب وأظافر، ويسيل من فمه لعابه.. فإنسان جريح، وإنسان كسيح، وآخر من الهم طريح، وآخر لديه كآبة، لقد داسوا عنوة على الأرصفة، وتجاوزا الأنظمة، وسابقوا الأنظار، وقطعوا الأشجار، والناس ما بين هرج ومرج، وكلهم محتار، يجر أنينه، ويعلو عويله، وفي قلوبهم جذوة ما استكانت ولا هدأت ولا خبت.. هذه الشاحنات يا مدير عام إدارة المرور بالمملكة تتعارك في طرقاتنا يوميًّا، تستبيحها بلا خجل، ولا وجل، ولا ملل.. هذه الشاحنات أذاقت الناس ملح الأرض، ورمتهم بالشظايا، وخلفتهم بالأوجاع، ورمتهم بالأحزان، حتى غابوا عن الوعي، وضاعت صباحاتهم الندية، وما عادت مساءاتهم تشبه السكر والمسك والنرجس، والابتسامة عندهم ما عادت ابتسامة.. أعمال هذه الشاحنات صارت صلافة، واستعراضاتهم صارت سخافة، ولا عندهم تمدن، ولا يعرفون الإشارة، وخريطة الطرق عندهم مستباحة، مثل ثعبان، لا يعرف العاصفة، ولا عنده فاصلة، ويبحث كل يوم عن فريسة، من دون أن يعرف الضحية، والضحية مواطن يعتز بالهوية.. لهذه الشاحنات تغرس، وخشونة قيادة، ولمعان تحدٍّ.. يا مدير عام إدارة المرور بالمملكة، أعرف أن لديك إدراكًا عميقًا، وجهدًا بليغًا، وتصورًا راقيًا، وقناديل تحاول إضاءتها بزيت العمل، وهم الناس يسكن بؤبؤ عينك، ويجري في دمك، وكل الحروف التي نكتبها، تسكنها في عمق روحك، وتزرعها في جدران قلبك، حتى تصبح مثل الشموع، لكننا مللنا ونحن نكتب عن هذه الشاحنات، وتلك الضحايا البريئة، حتى أن كتاباتنا عن هذا الوباء صارت من التكرار عامرة، وها نحن نبحث عندك هذه المرة عن فاصلة، ونقطة نظام، ولائحة.. فامنحنا الماء لكي نسقي به أرواحنا العاطشة، فبسبب هذه الشاحنات دفنا الأصحاب بالقبور بحزن وقهر، وما عندنا من الأشياء غير الصوت والمفردة، والحبر والمحبرة.. يا مدير عام إدارة المرور بالمملكة، لقد حوّلت هذه الشاحنات شمس بلادي إلى كتلة من لهب، وجعلت من جيولوجيا الدمع مكتنزًا بالوجع، فأزح عنا الملح والشوك والعليق والوجع، واغلل هذه الشاحنات بيد من حديد، فالخريطة عندك، والواقع والشاهد والبرهان والمنجز عندك، وسخاء الفعل والعطاء وصلب النظام عندك، فاستعجل بهذا الأمر لنا، فأجمل الأشياء حين تكون بكرًا، مثل أول قطفة في حقل عنب.