د. جاسر الحربش
ظاهرة الانتقال من ضيق القيد إلى الركض على غير هدى معروفة في عالم الحيوان. عندما يطلق الصياد غزالاً أو حتى ذئباً من الفخ لن يلتفت الحيوان الطليق إلى الخلف للتعبير عن الامتنان. الغريزة الحيوانية في التعامل مع الحرية تدفع به إلى الأمام بعيداً عن الفخ والصياد. هذا التصرف الحيواني متوقع لأنه القاعدة، لكن ما حصل في عيد مدينة جدة، الرقص والغناء في المسجد، كان غير متوقع لأنه للأسف حصل بنفس الطريقة الغريزية أي الاندفاع على غير هدى.
تعايش المجتمع السعودي منذ حرب أفغانستان الأولى مع حقبة مظلمة وظالمة من ضيق القيود على الحياة الخاصة والعامة، فتحولت حفلات الزواج والأعياد والأفراح العائلية إلى مجالس وعظ وتوزيع أشرطة جهادية وتخويف للاستتابة عن خطايا الفرح والمرح والضحك. انقلب الفضاء العام بالإكراه إلى كآبة مطلقة وثقيلة. ذلك الجو الرصاصي استغله من هم معروفون بالشريط والصورة والكتيب، لتدوير طلاب وتلاميذ المدارس على المعسكرات الصيفية والمقابر، لإقناعهم بأن الموت بالنيابة عنهم وعن أبنائهم هو في سبيل الله وأنه أسرع الطرق إلى الجنة.
مع البدايات الواعدة للعودة إلى التعامل السوي مع الحلال والحرام والفرح والحزن والمعروف والمنكر، يتوجب على المجتمع السعودي أن يكون مستعداً ومتوقعاً لتصرفات وأصوات نشاز وشذوذ، بعضها يعبر عن فساد غريزي شخصي في الأخلاق والفهم، وبعضها قد يكون مقصوداً للتشويه والتعطيل. لكن يجب ألا يكون الحكم على تصحيح ما كان غليظاً وقاسياً وكئيباً بطريقة الاحتجاج بظهور قلة من شواذ النساء والرجال هنا أو هناك. خضراء الدمن المنحرفة والفاسق الماجن والمتحرش الحيواني، هذه ظواهر لم يخل منها أي عصر ولا حتى عصر النبوة والخلافة الراشدة. الضبط والربط القانوني يجب أن يسري على الجميع، والشاذ لا يعمم كقاعدة لإخضاع الجميع.
ما حصل في أحد المساجد يوم العيد في مدينة جدة كان فجوراً وفحشاً لا يقبله أتباع كل الديانات في كنائسهم ومعابدهم، والمسلمون أحرص أهل الديانات على قداسة بيوت الله. سوف توجد اجتهادات كثيرة فيما حدث، ولكن ربما برؤيته كفعل وليس كظاهرة. المهم هو دراسة الظاهرة نفسها، أي الانفلات من القيود والانتقال على غير هدى من جنائزية الأفراح والأعياد التي استمرت أربعين سنة، إلى همجية وحيوانية الركض المجنون والرقص والغناء في بيوت الله. هناك احتمال أن الرضوخ الاجتماعي فيما مضى كان عن غير قناعة، واحتمال فشل الجهود التربوية لكونها حصلت بالإكراه، هذا مما قد تكون من مواضع الاجتهاد. هناك أيضاً السؤال عن الحدث نفسه، هل كان مقصوداً لقطع الطريق على إصلاحات قادمة، ولماذا لم يقم من موَّله ودعا إليه بتوجيه الدعوة للاحتفال الغنائي الراقص في استراحة أو صالة فندق أو قاعة أفراح.
ثمة أسئلة كثيرة في بطن تلك الظاهرة الخبيثة يجب أن تدرس بعمق لكي لا تتكرر وتستغل.