د. خيرية السقاف
ببساطة كم ستكون الحقائق زُلالاً, والماء صفواً, والحقيقة ثقةً, لو أنّ كل واحد من الناس «المتطفِّلين», و«الوصوليين» يوقف نفسه على ما يخصه, ويعلمه, ويفهمه, وإن كان لديه فيه معرفة، ليدع لأصحاب الشأن أن يتولوا اختصاصهم, لما تحدّث أحد في غير مجاله, ولما أفرغت الوسائل بالخلط, والغثّ, والنّتن, والفاسد, وسوء البضاعة التي أزكمت الأنوف, وكدرت الأذهان والنفوس!!..
بل لما عميت على العامة أمورٌ أساسٌ, وطُمرت قواعد أصل في شأن من شؤون العلم, والسياسة, والدين, والطب, والاقتصاد, والتربية لأنّ هناك من يغرف من غير بحره, ويهرف بما لا يعلم.. و»يخوض مع الخائضين»..
حتى غدا المجتمع البشري في المنطقة العربية وكأنه على مرجل يحترق فيه كل شيء جميل.. ويسقم فيه كل أمر سليم, يسقط طيره, وتجف جداوله, وتموت زهوره على أطراف الطريق..!
أليس العزلة في هذا الوقت من مراحل تغيرات المجتمع البشري الكوني أجدى ليجعل المرء دخيلته في أمان من طمي هذه التغيرات, وعماها, وأسنِها, وشقائها الغالبة على الجميل القليل فيها..؟!
بلى إنّ التوقيت الراهن في تاريخ البشرية يبصم على شقائها بهؤلاء الطفوليين, الراكضين مع الريح.. يحسبون أنهم على الجادة وهم منحرفون عنها, وأنهم ممتلئون لكنهم فارغون بما يكعُّون ومفسدون, وأنهم متسيّدون الضوءَ وهم معرُّون أنفسَهم.. يتوالدون, ويتكاثرون..
ترى كم ستكشف قادمات الأيام عن هذه المرحلة المريضة في تاريخ البشرية، وعن أقطابها الذين أظهرتهم وسائل الإعلام، وشحذتهم وسائل التواصل, وذهبوا مع قوادم التراكض,
الذين دعمهم الجهل, وعزَّزهم الفراغ من دون كابح لهذا المد من أمراضهم؟!!,
هؤلاء الجهلة الذين يخوضون في كل شأن, الذين أشاعوا ويشيعون في الناس الفتن الفكرية, والفوضى المعلوماتية, والتسطُّح المعرفي ببهرجة الأشكال التعبيرية، .. الذين ساعدتهم وسائل التواصل, والاتصالات, وبرامجها المتوالدة المذهلة, وسيَّدتهم وسائل الإعلام فقط لأنها أخذت بمبدأ ادفع بالصوت لاتقاء الفوت, والمكاسب الربحية المادية فوق كل اعتبار..؟!
فيما ينحسر العقلاء نحو ظلال التفكُّر في عزلة التأمُّل الواعي, والصمت الحكيم..
ولعلهم أن ينجزوا ما يرصد وهنَ الحاضر, وأدواءه في المجتمعات البشرية التي تواصلت, وتقاربت, والتحمت, بما قضي فيها على الحدود, لتُبنى فيها المصالح بالمفاسد, وتعمُّ فيها الفوضى بادعاء الكونية, بينما وراء هذه الكونية نوايا ونوايا, لعل أول مشاهدها هؤلاء الناس الذين يهرفون بما لا يعلمون, ويركبون ظهور خيل غرورهم بجهلهم, ويكرّون ويفرّون في المضامير كلها فرحين بما يدمرون من ثقافة, وأصول, ومعرفة, وقيم, ودين, وأخلاق, وتاريخ, وتراث, وحضارة, وغيرها..؟!
إنّ مجتمعنا لا يخلو من نماذج هؤلاء المرضى, ولم يسلم من غثِّهم..!!