عبدالعزيز السماري
الصور والأحداث تحكي الواقع أحياناً بصورة أكثر ذكاءً من مجرد كلمات أو تغريدات يختصم عليها المغردون، فقد أثبت تلك الصور أن التاريخ العظيم تكتبه الشعوب الواعية، وأن الحريات والحقوق تحفظها إيمان الناس بها عن تجربة حية، بينما يبقى الجهل والأمية والفساد قنوات تدخل منها شياطين السياسة، أو من يعشقون الاستيلاء على الثروة والسلطة بطرق قطاع الطرق واللصوص.
في تركيا وقف الشعب بمختلف أحزابه وفئاته مع الديموقراطية، وخرج بعد منتصف الليل ليعيد بعض المارقين عن الشرعية لثكناتهم، وليعيد الحكومة إلى مقرها، ولتستمر مسارات الحرية والديموقراطية والحقوق والتنمية إلى الأمام، وما يحدث في تركيا من إزدهار كان خلفه عقلية إصلاحية، تؤمن بحقوق الناس، وتوفر لهم فرص العمل، ولعل القفزات التنموية التي حققتها تركيا خلال الأعوام العشر الماضية تحكي قصة الإصلاح في البلاد.
لم يكن يحدث هذا بدون احترام للدستور والأجواء الديموقراطيه، وبدون إخراج للأيدولوجيات من الخطاب السياسي، ولعل أبرزها الدين، والذي يجب أن يظل في منأي عن الصراعات السياسية لسمو تعاليمه، ولاختلاف تفسيراته بين المذاهب، لهذا أستغرب أطروحات بعض الإسلاميين عندما يصفون بالحكم في تركيا بالإسلامي السني، بينما هذا ليس بصحيح، فالحكم السياسي في تركيا يعتمد على العلمانية والديموقراطية من أجل نبذ الطائفية والتشرذم المذهبي وإستغلال الدين في السياسية.
من أجل أن نفهم أهمية تركيا في صورتها الحالية علينا أن نتصور البديل في المحيط الإسلامي، في ظل غياب الثقل العربي، فالتوازن التي تؤديه تركيا في أجوائها الديموقراطية واحترامها لحقوق الإنسان وتنميتها الباهرة هو النموذج الأمثل لمواجهة البديل في المنطقة وهو الحكم الطائفي ممثلاً في إيران تحت ولاية الفقيه، والتي تحاول أن تنشر نموذجها في الدول المجاورة مثل العراق وسوريا ولبنان والخليج.
غياب العرب عن سباق التوازن له أسباب من أهمها افتقارهم للنموذج الذي يقدمونه للآخر، فبعض العرب كانوا، ولا زالوا ضحية لحكم الاستبداد العسكري والطائفية لقرون، وهو ما يجعل النموذج التركي المعاصر يقوم بالمهة الأمثل ضد انتشار الطائفية ممثلة في إيران، وهو ما جعلهم أيضاً ضحية سهلة للفكر الطائفي، والعراق مثالاً على ذلك.
لهذه الأسباب كان انتصار الشعب التركي في مواجهة الإنقلاب العسكري والاستبداد مدوياً وحراكاً تاريخياً مؤثراً في المنطقة، وستكون له آثار في وعي الشعوب المتراكم، وما تقدمه تركيا الآن ليس درساً فقط للسياسين في المنطقة، ولكن قبل ذلك درساً بليغاً لأصحاب الإطروحات الإسلاموية السياسية، أو الذين لازالوا يعيشون في فكرهم السياسي قبل عشرة قرون.
الفكر السياسي كائن حي وقابل للتطور والخروج من فكر المؤمرات و الدهاليز المظلمة إلى حيث الشفافية والوضوح في العمل أمام الشعوب، ولم يعد أموراً تقضى في ليل، ثم تخرج في صباح الغد بدون علم مسبق أو طرح برلماني لتشريعها أو الاتفاق عليها من قبل ممثلي الشعب.
في غياب التأثير العربي، المنطقة في سباق أمام نموذجين، وعلى الشعوب تحت وطأة الحرب الأهلية أن تختار أيهما النموذج الأمثل لحكمها، ولعل ذلك يفسر حالة الصراع والحرب في سوريا والعراق ولبنان وليبيا، فالحروب الأهليه الحالية هي على وجه التحديد بين النموذج الديموقراطي وتمثله تركيا والنوذج الطائفي الذي تموله إيران وتدفع به بقوة السلاح في الدول العربية، فمن ستختار هذه الشعوب؟.