قاسم حول
لأكاديميات السينما في العالم مهرجاناتها الوطنية والعالمية، ففي كل أكاديمية للسينما وفي سنة التخرج تعرض أفلام جيل من السينمائيين يعطون لأفكارهم حرية السفر في لغة السينما ومفرداتها ويقيمون تجارب تدهش المتلقي حقاً؛ ويشرف على هذه الأفلام كبار الأساتذة والمخرجين، وقبل عقد من السنين فكرت بولندا بإقامة مهرجان دولي لأفلام جميع أكاديميات السينما في العالم وهو مهرجان «أتيودا» في مدينة كراكوف البولندية؛ إذ حقق المهرجان نجاحات عظيمة، حيث ضم المهرجان نخباً من أفلام وتجارب مدهشة حقاً لأنها تعرض تجارب حرة لا تخضع لمواصفات شباك التذاكر، بحضور كبار المخرجين المحاضرين في أكاديميات السينما لكي يشاهدوا ردة فعل الجمهور على أفلام طلبتهم، ومدى تقييم لجان التحكيم لتلك الأفلام.
من جملة الأكاديميات السينمائية التي تقيم مهرجانا للطلبة الذين يدخلون عالم الإخراج والتصوير والتمثيل، هي أكاديمية وليام السينمائية في جامعة «روتردام» الهولندية، وكان يوم السادس من يوليو- تموز موعداً للمهرجان، حيث عرضت الأفلام في صالة سينما (لا نتارن فينسنر) في مدينة روترادم على ساحل الميناء الجميل، وحضرها جمهور من عشاق السينما والنقاد والصحفيين، إذ ناقش الجمهور الأفلام المعروضة وظروف إنتاجها، ومستواها الفكري والفني الجمالي.
ومن ضمن الأفلام المتميزة فيلمان حظيا بنقاش مستفيض لشدة ما استفزتا الجمهور «إيجابيا» الفيلم الأول للمخرج «شيد داوت» وهو يتحدث عن حارة إيطالية سمى الفيلم باسمها وهي حارة «تريورا» كان قد زارها في أيام عطلة الأكاديمية، وتركت في ذاته انطباعاً وصوراً لأزقتها وجمالها؛ وحين طلبت منه الأكاديمية اختيار موضوع لفيلم التخرج اختار القرية موضوعا لفيلمه، فأخذ معه مصوراً من قسم التصوير وصور القرية في فكرة تتمثل في مخرج يبحث عن ذاته في القرية فيتيه في عالمها عند عودته إليها، هي فكرة «التيه» وكان في هيامه هذا يتصور امرأة ما تمثل جانبا من التيه، حيث هي موجودة في الصورة السينمائية، ولكنها ليست موجودة في الواقع، فنحن نراها وهو يراها في التيه، فالموضوع ذو قيمة جمالية وفكرة بسيطة ممثلوها شخصان مخرج وامرأة، إذ تميز الفيلم بشاعرية وإنسيابية ووحدة لونا وصوتا تنبئ بمخرج واعد في عالم السينما.
الفيلم الآخر الذي استفز الجمهور «إيجابيا» هو فيلم الجدار الأخير، للمخرج العراقي «حيدر الجزائري- سبق وأن كتبنا عن رحلته أثناء التصوير» والآن أصبح الفيلم حقيقة ماثلة على الشاشة وأمام جمهور غربي يرى تجربة غريبة وجريئة من الشرق» لقد غامر المخرج بالذهاب للعراق لتصوير فيلم -أيضا- ذي شاعرية عالية، وإن كان يتحدث عن الإرهاب، ولكن الحكاية تتمثل في حلم إنسان يريد أن يبني له غرفة يستقر فيها في قرية ويتزوج، وهو بقدر ما يحلم بحياة هانئة ويبني أسرة فإن زواجه يشكل حلما لأمه التي ليس لديها سواه فتشارك في بناء جدران الغرفة، وحين يسمع الأخبار بأن الإرهابيين يتقدمون نحو قراهم يقرر المقاومة ويترك الزواج والحلم الشخصي مؤجلاً.
تمكن مخرج الفيلم «حيدر محمود» من تصوير المشاهد بكاميرا ذكية، حيث قام بنفسه بالتصوير إضافة إلى مهمته كمخرج، حين يصاب البطل وينقل للمستشفى ويقرر الطبيب قطع يده كي لا يتسرب السلاح السام الذي أصيب به، لكنه يرفض لأنه يريد أن يكمل الجدار الأخير الذي تركه قبل ذهابه للمعركة، وفيما هو نائم يرى أمه وهي تبني الغرفة فتأتي إليه والطين يملأ يديها وتمسك يديه في الحلم بحركة بطيئة وبإضاءة موزعة بعناية، سحرت مشاهدي المهرجان حيث كان مشهدا مؤثرا أدان بدون كثير من الانفجارات الإرهاب حين يقتل الأحلام.
لقد وجه الجمهور والنقاد أسئلة ذات طابع فني و-أيضا- ذات طابع إنتاجي، إذ كيف يستطيع مخرج شاب أصبح هولندي المزاج والتفكير أن يعود إلى وطنه بعد غياب طويل لسنوات وكيف هي مشاعره في تصوير واقع ملتهب وخطير؟! فمن ضمن الأسئلة المثيرة عن صعوبات العمل الفني، أن المخرج أبلغ الجمهور أن مشاهد الفيلم تدور بين أم شعبية وابنها الذي رفض إكمال الجدار الأخير لبناء غرفة لحياته الزوجية في الريف، ومن الطبيعي أن تتحدث الأم مع ابنها وتعانقه وهو ذاهب للحرب، لكن الواقع لا يسمح بمثل علاقة الأمومة هذه أن تعانق الممثلة ممثلا آخر، وليس من الطبيعي أن يذهب الابن للحرب دون أن يعانق أمه، وهو عناق بين أم وولدها، ولكن ذلك غير مسموح به على مستوى العلاقات الإنسانية ما يجعل الممثل يبحث عن امرأة ممثلة ويكون ابنها ممثلا أيضا حتى يصبح العناق ممكنا! لا يمكن أن يحصل هذا عالميا في تصوير المشاعر الإنسانية؛ وأسئلة كثيرة من هذا النوع جعلت الجمهور يدرك مدى صعوبة واستحالة تنفيذ أفلام سينمائية في ظروف مثل هذه غيرت مسار المجتمع نحو حقب متأخرة بعيدة، ولذا كانت الأسئلة تتوالى على المخرج وهو على المنصة وحتى بعد نهاية يوم عروض الافتتاح.
مهرجانات أكاديميات السينما مصانع لمخرجي الغد ولكن ليس دائما! فكثير من الأفلام تنتج بإشراف أساتذة كبار يسهمون في توجيه المشروع في العمليات اللاحقة الفنية، ولكن حين يصبح الطالب مخرجا ويكون وحده في الساحة حين ذاك نتعرف على الكفاءة إن كانت متطابقة مع مستوى فيلم التخرج أو أن ذلك الفيلم نتاج مجموعة من العوامل التي ساعدته كي يستكمل لغة التعبير السينمائية!