د.عبدالله البريدي
أشرت في مقالي السابق إلى ضرورة اعتناق فكر الاستدامة في سياق برامجنا التنموية (بما فيها رؤية 2030)، وقد طرحت بعض الأدلة والشواهد التي تعضد هذا الأمر. وفي هذا المقال، أقدم مبادرة عملية تسهم في تطبيق فكر الاستدامة وتعين على «مأسسة الاستدامة»، وهذا هو الأهم والأنجع، وذلك أن أي جهد لا يمأسس باهت ضائع، فالنجاح يستلزم قدراً من الاستمرارية والتراكمية في جوانب المدخلات والتشغيل والمخرجات، وهذا لا ينفي أو يتعارض مع فلسفة التحسين الدائم؛ في إطار مستقر من الممارسات المؤسسية.
بكل اختصار، تتمثل المبادرة التي أقترحها في الإسراع بالتوجيه بتأسيس «إدارة الاستدامة» (أو أي مسمى مشابه) في كل مؤسسة حكومية، على أن تكون هذه الإدارة مربوطة بأعلى مسؤول في المؤسسة الحكومية لضمان منحها الاهتمام الكافي والدعم التنظيمي، وضمان أعلى درجة من الممارسة الاحترافية لما يقر لها لها من أهداف وآليات ومعايير. ومن الأهمية بمكان سن نظام يلزم الشركات المساهمة والشركات الأخرى الكبيرة (وفق مبدأي رأس المال والعمالة) بتأسيس «إدارة الاستدامة»، لنضمن تطبيق مبادئ الاستدامة وتحقيق أهدافها في القطاعات الحكومية والخاصة على حد سواء، ويجب أن يشمل ذلك أيضاً المؤسسات الخيرية والتعاونية، فهي تمثل قطاعاً كبيراً متنامياً، له تكاليفه واستهلاكه الضخم للموارد والطاقة، وهو بأمس الحاجة إلى فكر الاستدامة.
لا يسوغ لنا إطلاقاً الاستمرار في نهج يتجاهل أو يهمش «مأسسة الاستدامة»، فبدون مثل هذه المأسسة الواجبة نجد أن التأسيس والإدارة والتشغيل للمقرات والمباني والمرافق والبني التحتية يتم بشكل لا يراعي أبسط معايير الاستدامة واشتراطاتها ومؤشراتها العلمية وفق أفضل ممارساتها العالمية الناجحة، فضلاً عن الاستهلاك الطاقوي الباذخ في كثير من مؤسساتنا السعودية.
ومن أهم مقومات المأسسة في رأيي تأسيس «إدارة الاستدامة» في القطاعات الحكومية والخاصة والخيرية والتعاونية. ولعله من المنطقي التركيز على الأبعاد البيئية والاقتصادية في مجال عمل «إدارة الاستدامة»، إِذْ من الصعب معالجة البعد الاجتماعي أيضاً في سياق المنظمات الحكومية والخاصة والخيرية والتعاونية، وهذا لا يعني استبعاد المكون الاجتماعي تماماً، إِذْ تمس الحاجة إلى ترسيخ الوعي المجتمعي لدى منسوبي تلك المنظمات وفي أوساط المجتمعات المحلية المستفيدة من خدماتها ومخرجاتها.
وفيما يلي أقدم توصيفاً مختصراً لأهم الأبعاد النظامية والتنظيمية التي تضمن نجاح «إدارة الاستدامة» وفعاليتها المؤسسية.
أولاً: الإطار النظامي لإدارة الاستدامة
يتعين وضع لائحة أساسية منظمة لعمل «إدارة الاستدامة»، على أن تضع هذه اللائحة الجهات ذات الصلة؛ تحت إشراف الجهة المسؤولة عن هذا الملف في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بشكل مباشر، لضمان انبثاقه من الأهداف والمؤشرات المعتمدة في رؤية 2030 وبرامج التحول الاقتصادي، على أنني أشدد على أهمية الإسراع في وضع هذه اللائحة والانتهاء منها وإقرارها بأسرع وقت ممكن. ويمكن لهذه الجهات المكلفة بإعداد اللائحة الاستئناس ببعض اللوائح المشابهة في الدول المتقدمة، بما في ذلك الأطر النظامية والمعايير المهنية المقرة، ومنها على سبيل المثال:
1. ISO 14031
2. the Social Accountability 8000 Standards
3. the GRI Sustainability Guidelines
4. Eco - Management and Audit Scheme
ومن أهم مزايا تلك الأطر أنها تسهم في تبني قواعد وآليات تنظيمية وإجرائية لإعداد تقارير خاصة بالاستدامة وضمان الجودة وتوكيدها مع تشجيع المنظمات على الالتزام بها على أسس مؤسسية (انظر كتابي: التنمية المستدامة، 2015، العبيكان).
ثانياً: التبعية التنظيمية لإدارة الاستدامة
يفترض أن تحسم اللائحة الأساسية مسألة تبعية «إدارة الاستدامة» من الناحية النظامية والفنية والمهنية، مع تبعيتها التنظيمية للمؤسسة الحكومية أو الخاصة أو الخيرية أو التعاونية التابعة لها. ويدخل في هذا الجانب التقيد بتحقيق أهداف الجهة المركزية المسؤولة، حيث إنها المنوط بها تحديد منظومة متكاملة من الأهداف والمخرجات والمؤشرات المتعلقة بتطبيق الممارسات الخضراء في الأبنية والمرافق والبني التحتية وترشيد الاستهلاك الطاقوي والمحافظة على البيئة بكل مكوناتها. ويدخل في ذلك تحديد الأطر الحاكمة لإعداد التقارير الدورية للإنجاز وتحديد العوائق والانحرافات عن الخطط والبرامج المحددة وكيفية تجاوزها.
ثالثاً: توصيف أولي مقترح للهدف العام لإدارة الاستدامة
تستهدف الإدارة وضع خطة استراتيجية وخطط وبرامج تنفيذية سنوية؛ من شأنها تحقيق الأهداف والمخرجات المتوخاة في مجال الممارسات الخضراء والترشيد الطاقوي والمحافظة على البيئة بكل مكوناتها، بكافة السبل المناسبة وفق السياسات والأنظمة والتعليمات المعتمدة.
رابعاً: أبرز مهام إدارة الاستدامة
لتحقيق أهدافها، تنفذ «إدارة الاستدامة» كافة المهام اللازمة، ومن أهمها:
1 - وضع خطة استراتيجية للاستدامة في المنظمة؛ وفق السياسات والأنظمة والتعليمات المعتمدة.
2 - وضع خطة تنفيذية وبرامج عملية سنوية للمنظمة؛ بمشاركة جميع الوحدات ذات الصلة في المنظمة.
3 - تحديد الأخطار البيئية القائمة والمحتملة التي تواجه المنظمة وتحديد مستويات خطورتها وكيفية إدارتها ومعالجتها بأفضل الأساليب الممكنة وأقل التكاليف.
4 - وضع آليات فعالة لتحقيق جميع مؤشرات الاستدامة المعتمدة وبأعلى مستوى من الكفاءة والفعالية والجودة.
5 - التأكد من تطبيق معايير «خضرنة المقرات» واشتراطاتها سواء في المباني القائمة أو المزمع تأسيسها.
6 - المراجعة الدقيقة لمستويات استهلاك الموارد والاستهلاك الطاقوي في كافة الوحدات والمباني التابعة للمنظمة وتحليلها، والتأكد من عدم تجاوز المعايير والضوابط والمؤشرات المعتمدة.
7 - التأكد من اقتناء الأجهزة والمعدات الصديقة للبيئة والموفرة للاستهلاك الطاقوي في كافة الوحدات التابعة للمنظمة.
8 - المراجعة الدقيقة للسياق البيئي في المنظمة لضمان الأمن البيئي والصحة العامة، وذلك بإجراء الفحوصات والدراسات اللازمة وفق الآلية المعتمدة.
9 - الرقابة الدقيقة لكيفية إدارة النفايات الصلبة والنفايات الخطيرة وفق التعليمات المعتمدة واقتراح حلول تطويرية لرفع معدلات تدويرها وحسن استغلالها.
10 - التأكد من عدم وجود أي تجاوزات أو مخالفات بيئية أو طاقوية من قبل بعض الوحدات أو منسوبي المنظمة.
11 - ترسيخ الوعي وتعزيز سلوكيات الاستدامة في كافة الوحدات التابعة للمنظمة، عبر البرامج التدريبية والنشرات والتواصل الفعال مع جميع منسوبي المنظمة والمستفيدين منها.
12 - الرقابة على الأداء والمخرجات والنتائج والسلوكيات ذات الصلة بالاستدامة، وتصحيح الانحرافات وفق السياسة والأنظمة والآليات المقرة.
13 - تشجيع الأفكار الخلاقة والآليات الإبداعية لتعزيز ممارسات الاستدامة وتقديم الجوائز المادية والمعنوية.
14 - بذل جهود تعين على تأسيس قواعد بيانات بيئية وتنظيمها، والعمل على إدارتها بما يعظم الانتفاع منها.
15 - تعضيد مجالات التعاون والشراكة في سياق الاستدامة على المستويات الوطنية والدولية.
أجزم بأن تأسيس «إدارة الاستدامة» في منظماتنا الحكومية والخاصة والخيرية والتعاونية سيكون له أثر كبير في تحسين الأبعاد البيئية وفي تحقيق الترشيد الطاقوي. وفق دراسات علمية تفصيلية سنحدد نسب متزايدة للتوفير الطاقوي في مختلف منظماتنا، وسيترتب على ذلك منافع عظيمة. وبشكل عام وبتخمين أولي، أميل إلى أننا نستطيع تحقيق توفير طاقوي بمعدل 20 في المئة تقريباً في أول سنة في كثير من منظماتنا، فالهدر كبير جداً، ولا يسوغ بعد اليوم التغاضي عنه. بيئتنا تئن من جور ممارساتنا المضرة بها لعقود خلت دون مبرر، وأجيالنا القادمة لها حق كبير علينا أيضاً، فلندخر ما يكفي لقوتهم ومعاشهم في أيَّام ربما تكون أكثر عبوساً من أيَّامنا هذه التي لا تخلو من العسر والتقطيب. أتفاءل كثيراً في هذا المسار، فثمة نقلة جيدة في طريقة تفكيرنا في معالجاتنا لبعض المسائل والملفات الكبيرة.