د. حمزة السالم
«مُنىً كُنَّ لي أَنَّ البَياضَ خِضابُ» فقد قضيت ريعان شبابي بين حياة تخيلية عشتها أتقلب في جنبات الدرعية الأولى، وبين حياة واقعية حبست فيها نفسي اختياراً بين ميادين التدريب والمشاريع والحروب وبين كتب السلف. فقد كنت شابا مُكتهل القلب، يزداد كهولة عاما بعد عام، حتى وعكس اتجاهه نحو الشباب عاما بعد عام منذ عودتي من أمريكا. فلا أدري: هل هذا حال مسكوت عنه عند كل أحد، أم تلقي الصدمات الواحدة تلو الأخرى كانت هي السبب. فحقيقة أقولها بلا مبالغة، إنني لم أكن أدرك إلا المعاني التنظيرية، للحسد والغيرة والكذب والافتراء والمكر، وعشت شبابي زاهدا في الدنيا، زُهد المتصوفة السُذَج. ولهذا لم أفهم تصرفات كثير ممن يدعي الانتساب للعلم الشرعي. ولم أقتنع بنصح الناصحين الأوائل، ممن قال «أدخل وكِل معهم، ولا ما عليك فيهم».
فلا أذكر مطلقاً أن مررت بموقف تعرضت فيه لحسد أو افتراء من أحد، طيلة خدمتي العسكرية ودراستي في أمريكا، إلا مرة واحدة. ولعلها كانت مرات كثيرة، ولكني كنت درويشا بحق، فلعلي لم أدركها. أما تلك الحالة الوحيدة التي أذكرها، فقد كانت حالة ظاهرة فيها افتراء بين وكذب صريح، لا تخفى على الطفل.
(والدرويش، كما في معجم المعاني الجامع والوسيط هو «الزاهد الجوال» ومعاني أخرى في المعاجم تدور نحو من ذلك، ولا أدري لماذا تُعتبر الكلمة مذمة عند البعض).
فوالله إني لم أفعل شيئا للرجل ولم أزاحمه على دنيا، فأُخرج بذلك خبيث نفسه، اللهم إنه رأني، فدعاني لوليمة سيقيمها تشريفا لي. فحاولت الاعتذار فأصر، فلما أجبته طلب مني أن أسعى له في أمر من أمور الدنيا التي يتنافس عليها الناس، وأنا أبعد الناس عن ذلك. فأخبرته بصدق وأمانة أني لم ولن أسعى في ذلك لنفسي، ولو أردت فما والله أقدر عليه. فما كان من الرجل إلا أن سحب وليمته، ثم قام بنشر افتراءات علي وأكاذيب محضة ليس لها أصل من دخان ولا غبار. بل هي أبعد ما تكون عن شخصيتي وخلقي، إلا أنها قد عملت عملها، فقيل لي، « أما وقد قيل». فعدت حسيراً كسيراً حزينا متألما، فإذا بالعم يفاجئني برغبته القوية في إرسالي للدراسة في أمريكا، فلعل هذا كان من أسباب عدم الممانعة التامة للابتعاث.
فقد عاد مكر الحاسد وافتراؤه علي بالخير الكثير. ومن ذلك الخير، أن مكر الخبيث كان هو السبب عندي وعند غيري في بعثتي لأمريكا. وكانت مطاردته لي بعد ذلك لقطع البعثة وإعادتي، حافزاً آخر للحرص على درجة الامتياز دائما. وقد نجح الخبيث في قطع البعثة، لولا أن الأمر عُرض على سمو مساعد وزير الداخلية آنذاك، ولي العهد الأمين اليوم، سمو الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز حفظه الله، فنظر في تقدمي ودرجاتي التي لم تنزل عن الامتياز قط، فأمر - أعزه الله وحفظه وأيده ووفقه وسدده- بإعادة البعثة نظرا لتفوقي.
واسترسالي في هذا الموقف، لأنه يصلح مثالاً توضحياً رائعاً لما واجهته من صدمات بعد ابتعادي عن العلوم الإنسانية وانخراطي في أمور الدنيا، والذي وقف المقال السابق دون بيانه.
فما فعله ذلك الرجل من مكر ووقيعة ثم ملاحقتي بالأذية والإفساد، هو العرف السائد تقريباً في مجال العمل في الأمور الدنيوية، ويكبر المكر ويشتد الإيذاء بقدر كبر الأمور وعظمها. وهذا أمر معروف لمن جرب ذلك، ولكني لم أكن أتصوره بهذا الحجم مطلقاً عندما ولجت للدنيا أعمل في أمورها. وللحديث بقية ذات شجون.