عبد الاله بن سعود السعدون
يعطي التوقيت المفاجئ لحملة تصفير العلاقات التركية مع بعض دول الجوار التي كانت تشهد توترًا وتشنجًا معها ابتداءً من إسرائيل وانتهاءً بروسيا ومعهما سوريا والعراق..كل هذا التغير الاستراتيجي في السياسة الخارجية التركية وتحويل بوصلتها لأكثر من المتوقع يعطي مؤشرًا جادًا باستقراء تركيا لمستقبل الوضع الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وتعرضها لحالة جديدة من التغير الانتقالي من الحرب إلى السعي وبجدية إلى السلام التحويلي لمرحلة الاستقرار وبالذات في العراق وسوريا..
تطبيع العلاقات مع روسيا التي استمرت لفترة طويلة من الاتصالات والمفاوضات وتبادل مذكرات التفاهم حول مرتكزات العودة بالعلاقات لمستواها السابق اعتمدت على أجنحة مهمة بين الطرفين منها سياسية وأخرى اقتصادية.. وتأتي قضية الحل السلمي للقضية السورية على رأس التطلعات المشتركة، فتركيا أدركت أن الأوراق الإقليمية والدولية قد تشابكت لتزيد مرحلة الحل العسكري بعيدة المنال وستزيد من تورط المشاركين الرئيسين فيها وطبعًا تركيا المجاورة للأحداث المتغيرة على الساحة السورية من ارتفاع خطر عصابة داعش على ساحة العمليات وارتدادها للعمق التركي واعتداء مطار أتاتورك في اسطنبول فشاهد حي على مدى خطورتها ومن جهة أخرى توسع مساحة الرقعة الجغرافية للأكراد وتطويقها للجنوب الشرقي من الخريطة التركية ومناداتهم بتشكيل إقليم كردستان في سوريا ويقع فاصلاً للحدود االمشتركة بين تركيا وسوريا وهذا التغيير يشكل الحدث المتغير وبسرعة لا تقبل به أنقرة وتعارضه وتعتبره خطًا أحمر لا يمكن السكوت عنه حتى لو كان مدعومًا من الإدارة الأمريكية والخشية من مخاطر تقسيم سوريا لأقاليم حكم ذاتي تتنافس مع بعضها بحرب أهلية تنعكس آثارها على الجوار الإقليمي وبمقدمتها الجارة تركيا.
التساؤل الذي يصعب إيجاد التفسير المنطقي له هو هل يمكن بعد هذا الصراع المسلح وقتل أكثر من مليون إنسان سوري بريء والتهجير القسري لأربعة ملايين مواطن سوري جلهم في المخيمات التركية مع تزايد وتيرة القصف الظالم وبأكثر الأساليب الوحشية من استعمال القنابل العنقودية وبراميل المسامير الإيرانية الصنع.. بعد هذا وأكثر يأتي إعلان رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم برغبة تركيا في التطبيع مع سوريا والعراق.. هنا لا بد من وقفة تأمل هادئة لتحليل خلفيات هذه الرغبة المفاجئة التي فجرتها أنقرة.
يدعونا كل هذا المناخ الإقليمي المضطرب حولنا أن نركز أولاً على بنود اتفاق تطبيع العلاقات التركية الروسية الذي بدأ باعتذار القيادة التركية عن حادث إسقاط المقاتلة الروسية على الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا التي شكلت شرارة التشنج والمواقف العدائية بين أنقرة وموسكو وعلى إثرها جمدت العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين المتجاورين.. في الملف السوري هناك حاليًا تطابق في التصور الروسي التركي على ضرورة بقاء سوريا الموحدة ومنح فترة مرحلية لتصفية ظواهر الحرب بين قوى الثورة وجيش السلطة وميليشيات ما يسمى بحزب الله وبدء مرحلة انتقالية تديرها حكومة اتلافية من القوى الوطنية ومشاركة عناصر من الحكومة الحالية ومعها تسير سوريا نحو السلام والبدء بتعمير ما دمرته مكينة الحرب الأسدية حتى بلغت نسبة الدمار في معظم المدن السورية لأكثر من سبعين في المائة وسيشكل لقاء كيري لاباروف في موسكو الإطار التنفيذي لمشروع السلام في سوريا ما بعد داعش وبشار الأسد.
البنود الاقتصادية احتلت مساحة واسعة من هذا الاتفاق التركي السوري لعمق التداخل الاستثماري بين البلدين الشركات التركية العاملة في روسيا الاتحادية تمثل عددًا لأكثر الشركات الأجنبية في قطاع المقاولات الإنشائية الروسية التي بلغ حجم استثماراتها أكثر من خمسة مليارات دولار حتى عام 2015م.
أما في مجال المشروعات الاستراتيجية الروسية في تركيا يأتي مشروع السيل التركي العملاق لتصدير الغاز الطبيعي عبر البحر الأسود إلى تركيا الذي سيمتد إلى اليونان الذي سيوفر فرص عمل للعمالة المحلية وزخ استثمارات نقدية للاقتصاد التركي ويأتي عقد إنشاء المحطة النووية في تركيا وبكلفة 22 مليار دولار التي ستنفذها شركة روسا توم الروسية ثاني أكبر الاستثمارات الاستراتيجية بين البلدين المتجاورين..
حجم التبادل التجاري بين أنقرة وموسكو بلغ عام 2014م 33 مليار دولار الحصة الروسية منه تبلغ 80 في المائة مما أثر في الاقتصاديات الروسية الاستهلاكية بصورة واضحة. وقد توقع الرئيس أردوغان حين لقائه بالرئيس بوتين قبل حادثة إسقاط المقاتلة الروسية بأن حجم التبادل التجاري بين البلدين من المؤمل أن يبلغ 100 مليار دولار عام 2023م.
السياحة التركية تأثرت لإيقاف الأفواج السياحية الروسية إلى التوجه للمناطق السياحية التركية وانخفضت بنسبة 13 في المائة يمثلون خمسة ملايين سائح وبلغ استيطان جاليات استثمارية لأكثر من 18 ألف عائلة روسية في المدن الرئيسة التركية. وأكثرهم يملكون فنادق وقرى سياحية في أنطاليا وأزمير وبودروم.
ما أفسدته حادثة إسقاط السوخوي الروسية بالنيران التركية أطفأته حركة المشروعات الاستراتيجية بين البلدين المتجاورين..