من فوائد الفلسفة المادية وقوانينها في نظر أصحابها، أنها فلسفة تخلّص الإنسان من ثقل وأحمال الضغوط النفسية ذات الارتباط الغيبي أو الديني، فالماديون في الجملة لا يقضون أيامهم ولياليهم في التفكير المقلق في الموت وسكراته وعذابات القبور كما يفعل كثير من أتباع الأديان التي تؤمن بهذه المعتقدات.. إن المادي الصرف لا تؤرقه ولا تشغل ذهنه قضية الحساب الأخروي والثواب العقاب وما يتعلق بذلك من أحلام وأمنيات ورعب وخوف، وبهذا فالفلسفة المادية مفيدة لأصحابها -في نظرهم- من هذا الاتجاه.
وبناء على ذلك تترتب فائدة أخرى، فهم إذا تخلصوا من ذلك الضغط النفسي الرهيب الذي يشغل حيّزًا كبيرًا من حياة المؤمنين النفسية.. إذا تخلصوا من ذلك، فسترتاح عقولهم وبالتالي تكون صافية للعمل النافع والإبداع المثمر الذي لا تقيّده قيود الأديان والأخبار الغيبية الماورائية.
والحقيقة أن الواقع يشهد بأن الكثير من الدول اللادينية اليوم تتربع على صدارة الرقي والتعايش والمحبة والسلام والسعادة وقلة الجرائم، ولنا في
(الدنمارك) مثال، فقد أظهر مؤشر السعادة الأخير أنهم من أسعد شعوب العالم، وتدخل معهم مجتمعات كثيرة أخرى، غالبها لا دينية وملحدة، أو علمانية تلتزم فيها الحكومات الحياد مع جميع الناس، مرددة شعارها الجميل: (الدين لله والحياة للجميع).
وأقولها بصراحة، بعد أن زرتُ عدداً من الدول اللادينية والعلمانية، وبعد أن تابعت ودرستُ بعمق مجتمعات لا دينية وعلمانية أخرى لم أزرها.. أقولها بصدق: إن غالب الناس في تلك الدول يحترمون بعضهم جداً، ولا يشتمون ولا يسيئون ولا يتجاوزون ولا يحرّضون ولا يهددون مهما بلغتْ حدّة النقاش بينهم.
فمتى يصل الناس في بلداننا العربية وخاصة الخليجية المتدينة إلى مثل هذا التعايش الحضاري الذي يدعو للبهجة والفخر في تلك المجتمعات اللادينية أو العلمانية، بتحقيقه الحب والسلام والوئام بين البشر؟
إن الماديين والملحدين واللادينيين في عصرنا هذا -رغم اختلافي معهم في العقيدة كمسلم- لا يدعون إلى قتل ولا تفجير ولا تدمير، بل إلى علم ومعرفة وسلام وتعايش في الغالب، ومع ذلك يهاجمهم ويلومهم ويحذر منهم المتطرفون من مختلف الأديان.
ولا أدري هل يوجد من يستحق اللوم والرفض والتنبيه والنصح والتحذير والغضب والنفور والاشمئزاز في هذا العصر، أكثر من إنسان ما زال يصرُّ على التمسك بمفاهيمه الرجعية المنغلقة البالية التي تحثه على الإساءة إلى غيره، ونبذ المختلفين معه في القناعات، أو المختلفين عنه في النسب أو المنطقة أو المذهب الديني أو الفكر أو اللون أو المستوى المادي أو غير ذلك من الاختلافات؟!
وللفلسفة المادية فائدة مهمة أخرى أيضاً في نظر كثير من أنصارها، وهي أنها تعطي المنتمي إليها المقتنع بها القدرة على الحكم الحيادي على البشر بصورة موضوعية أكثر من غيرها، فالمادي أو الملحد -غالبًا- لا يعطي قداسة أو مكانة اجتماعية إلا لمن هو أهل لها على أساس علمي وعملي بحت، أي على أسس ثابتة قوامها الإنجاز والإبداع الحقيقي في خدمة البشرية أو تقديم ما هو مفيد أو جديد أو مثمر.. وبذلك يختلف عن الذين يقدسون ويعلون من قيمة الأفراد على أسس دينية؛ كالذين يرفعون -على سبيل المثال- من قدر شخص لمجرد أنه واعظ يصيح ويبكي أمامهم مطالبًا بحرب المخالفين وقتل المرتدين وسفك الدماء وغزو الآمنين وما شابه. فالوعاظ والشيوخ والقديسون والحاخامات والرهبان والملالي وكل رجال الدين، ليس لهم فضل على غيرهم في نظر الماديين، الذين ينادون -غالبًا- بالمساواة بين البشر، مهما اختلفوا في عقائدهم.
وننتقل إلى غاية أخرى لهذه الفلسفة، فأصحابها يرون اتجاههم المادي يؤهل الإنسان بقوة لسبر أغوار نفسه والتعمّق في ذاته ومعرفة مواهبه ومميزاته وقدراته، والتبرير عندهم هو أن القيود المفروضة على المثاليين والمؤمنين من خارج أنفسهم، أي من عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم الدينية التي رضعوها بالفرض والتلقين والتقليد داخل أسرهم ومجتمعاتهم، تجعلهم مغيبين عن معرفة حقيقة ما يملكونه من مقومات وقدرات؛ لأن (حريتهم محدودة) لخوفهم من الدين ورجاله والمجتمع من جهة، ومن العقوبات الدنيوية والأخروية التي تهددهم بها تعاليمهم الدينية بصور كثيرة تختلف باختلاف الأديان.
من هنا يرون أن للمادية ثمارًا كثيرة على الفرد، من أهمها مثلا أنه يستطيع إنشاء كياناته الفكرية والمعرفية والثقافية بدقة وموضوعية ومصداقية وشفافية، وتصالح عالٍ مع ذاته، بلا خضوع ولا خنوع للمؤثرات الخارجية التي يُجبر عليها غيره.. فالمادي أكثر قدرة على رسم ماهية وجوده بحرية، دون أن يلزمه أحد بأن يرسمها وفق شكلية قهرية أو إجبارية معينة.
- وائل القاسم