حين قال الإمام الغزالي في القرن الحادي عشر جملته الشهيرة «الشك أولى مراتب اليقين» فقد كان بذلك يعتمد في منهجه الفلسفي على الشك في أمور منطقية قد لا تحتمل الشك فيها إطلاقاً، وهذا الشك هو ما يقوده لاحقاً إلى اليقين التام المطلق وينقذه من الضلال. وأنا أكاد أجزم أن الشك هو الطريق الأمثل لإثبات شيء ما، لأن أصل كل شيء هو العدم، وعدم الإنسان يسبق وجوده. وهذا المنطق هو الذي تداعى له فلاسفة الغرب في فلسفاتهم الوجودية، حيث قال الفرنسي رينيه ديكارت «أنا أفكر، إذن أنا موجود» وهي محاولة لإثبات الوجود المولود من رحم العدم بحتمية وقوع التفكير كحالة لدى الإنسان الذي يفترض به أن يكون كائن مفكر!
لكن ما يروق لي في قول الإمام الغزالي قبل أن أتفق معه أو أختلف هو تأصيل الفلسفة في الثقافة الإسلامية القديمة، حيث يستدل المناهضون للعلوم الفلسفية وضرورتها في تنشيط الفكر وتبديد الشكوك باليقين المنطقي بأن ورود مثل ذلك القول في كتب الإمام الغزالي الذي عاش قبل ديكارت مثلاً بخمسة قرون على الأقل. وهذا ما يدعوني للاستغراب من أولئك الذين يحاولون أن ينفوا علم الفلسفة والمنطق، بل ويحاولون أن يجعلوا من كل الفلاسفة ملاحدة لا يؤمنون بوجود الله.
إن إقصاء الفلسفة من تراثنا وثقافتنا رغم ارتباطها بعلومنا الإسلامية والإنسانية هو شكل من أشكال ممارسة السلطوية الدينية، وهذه السلطوية الدينية التي كانت من نتاج (صحوة التسعينيات الميلادية) لا يستخدمها إلا أولئك الذين يستخدمون الدين ولا يخدمونه، حيث تعتمد رؤاهم وسياستهم في تحقيق تلك السلطوية على إبطال العقل وإقصاء التفكير. لأن فكرهم الشعبوي الأممي ينبغي أن يكون خلفه عقول تنقاد لهم انقياد تام دون مراجعة أو تدقيق، ودون دراسة أو تحقيق، وهذا ما لا تحققه الفلسفة لهم بأي حال من الأحوال.
ولأن الفلسفة تصل العقل بالمنطق فإن الشك والثورة الفلسفية دائماً ما تبدأ في الأمور التي انقاد لها الناس وسلموا بحتميتها، وذلك على اعتبارها من الدين والمسلّمات بينما هي في حقيقة الأمر من الموروث والإسرائيليات وقصص ألف ليلة وليلة. وهذا ما يجعل هجوم الناس يشتد على ذلك الفيلسوف الذي قد يمس تراثهم وينتقد تقاليدهم، ويظنون أنه قد مس إيمانهم!
لذلك قال عبدالله القصيمي «ما أقسى أن تمنح عقلاً محتجاً في مجتمع غير محتج» بل إنه مجتمع يتوارث تقاليده العمياء ويحتفي بها وكأنها رسائل سماوية، مجتمع يؤمن بالسائد والمألوف ويكره التجديد والاختلاف. وليس أدل على ذلك من تلك الحروب التي شنها بانتظام قادة السلطوية الدينية على الفلاسفة والمفكرين وأخص السعوديين منهم. مثل عبدالله القصيمي وتركي الحمد وعبدالرحمن منيف وغازي القصيبي وإبراهيم البليهي، حتى أن تلك الحروب تخطت منع كتبهم من طباعتها ومبيعها في أوطانهم، وأصبحت الحرب موجهة لهم كأشخاص. فطالتهم الشكوك في حقيقة إيمانهم، رغم أن ذلك الإيمان يظل دائماً وأبداً بين العبد وربه، حتى يكون إيماناً خالصاً نقياً من شوائب الرياء.
- عادل الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
AaaAm26 @