«وداعاً للطرق المعبَّدة/ وداعاً لإشارات المرور/ عليّ أن أتّخذ دربي عبر الغابة/ عليّ أن أكون شقياً»
- منذر مصري
يقول المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس عن مستعمرة ماسيليا إن من أراد الانتحار فيها، كان يتقدم بطلب إلى مجلس الشيوخ، وهذا الأخير كان يقدم نبات الشوكران السام مجانًا للراغب بالانتحار إن وجدت أسبابه معقولة! ويبدو أن السيد بادي في فيلم طعم الكرز (قصة وإخراج عباس كيارستامي حاصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1997) كان يبحث عن موافقة مماثلة، فيقطع الدروب بحثًا عن شخص مناسب لهذه المهمة التي يراها بسيطة مقابل مبلغ من المال، ولا يبدو أنه يختار عشوائيًا-رغم اختياره العشوائي- بل حرص على أن يكون دقيقًا في مهمته في العثور على «المخلص»!
رغم أن غالب المشاهد كانت تدور في وقت الظهيرة القائظة، إلا أن السواد لم يغب عن الأفق، سواد الكآبة التي كانت تسيطر على السيد بادي وتثير في نفسه الرغبة الملحة بالانتحار والتخلص من حياة لم يعد يراها مجدية. لكنه بالإضافة إلى ذلك يبدأ رحلة مدفوعًا بأمل العثور على من يقبل أن يهيل عليه التراب، بعد إقدامه على وضع حد لحياته، القاحلة المجدبة كالصحراء التي يدور فيها، تمامًا مثل شمس الظهيرة، لا طائل منها سوى الحروق، ولم تفلح مظاهر البناء التي كان يتجول قربها، في إقناعه أن الحياة تستمر ولا تتوقف عند غيابه أو غياب غيره ولا أن تثنيه عن عزمه!
قد يكون سبب إصرار بادي على إيجاد ذلك الشخص المأمول، شخص يعرف بنيته في الإقدام على قتل نفسه صمام أمان له، وكأن وجود المطلع على سره يؤكد له أنه لن يتردد في إنهاء حياته، شخص يبدو كالمسمار المثبت في الجدار الذي كان الطلبة الهنود يربطون به شعورهم كي لا يناموا أوقات الدراسة، وحين وافق الرجل المسن على أن يكون صمام الأمان أو المسمار، ألح عليه بادي أن يوقظه قبل أن يدفنه بحجر أو اثنين، وحتى أن يهزه من كتفه ليتأكد أنه ليس نائمًا ويكون قد دفنه حيًا، وفي هذا يبدو مثل دون أوغوسطو بطل رواية ضباب لميغيل دو أنامونو (ترجمة صالح علماني، دار أثر 2016)الذي كان يرغب في الانتحار وحين أخبره كاتب القصة أنه سيقتله اعترض، مع أن النتيجة واحدة في النهاية، الموت والدفن في حفرة!
لا شك أن بادي كان يشعر بالوحدة طوال الوقت، وكان يتخلص منها في جولته بالسيارة مع الشخص المختار (المجند الشاب، الأفغاني المتدين، الرجل المسن) كان عندها يشعر بالصحبة المؤقتة التي انتهت سريعًا بهرب المجند ورفض المتدين وموافقة المسن ووصوله إلى عمله على أن يلتقيا في اليوم التالي، رغم أن احتمال لقائهما فعليًا كان ضئيلًا.
كانت الابتسامة التي غمرت وجه بادي بعد نجاح مهمته في شطرها الأول قد خففت من تجهم ملامحه، بخاصة حين اطمأن أن الشيخ سيحافظ على وعده وسيأتي في الوقت المحدد، فبدا كمن عثر أخيرًا على رفيق مناسب يرافقه في رحلة العودة إن استيقظ، أو يحمل مجرفته ليردم بها الحفرة/ القبر في المكان الذي اختاره ليكون مستقره الأخير تحت ظل الشجرة. كان ما يحرض السيد بادي طوال الوقت هو «الآمال الشاقة» بتعبير الشاعر منذر مصري، حتى أولئك الرومان الذين يتقدمون بطلبهم إلى مجلس الشيوخ، الأمل الذي يترك لبادي وللجميع النهايات مفتوحة على مصراعيها، فسحة يلونونها «كما شاء الهوى»..
- بثينة الإبراهيم