في بعض النباتات خصائص وأسرار امتازت بها عن غيرها يهدي الله إليها من يشاء، وإن منها تمرة عجوة المدينة وإحدى فضائلها، أُودِع فيها خاصية دفع ضرر السم والسحر فأصبحت علاجًا وحصنًا منيعًا يدفع ذلكم الضرر، إنها طب إلهي لهذه الأمة منذ صدر الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر) خرجه البخاري ومسلم. وفي رواية (من أكل سبع تمرات عجوة مما بين لابتي المدينة) وفي رواية (إن في عجوة العالية شفاء).
وهذه البركة في هذه الثمرة جعلتها موضع الاهتمام والرعاية من الناس زراعةً ورعايةً يتداوون بها ويقتاتونها، والحديث عن ذلك وفق التالي:
أولاً: العجوة غير خافية على أهل الشأن علماء وأهل خبرة بل توارث العلماء في كتبهم وصفها على مر العصور كلٍ منهم يذكر صفتها وهيئتها في زمانه، إذًا توارث الخلف عن السلف حقيقتها يجعلها غير خافية فإليك بعضًا من أقوالهم فيها مرتبة حسب تقدم أزمانهم لندرك وجودها وأهميتها على مر الأزمان:
1- قال الإمام أبو حنيفة (ت 150 هـ): العجوة بالحجاز أم التمر الذي إليه المرجع كالشِّهريز.
2- قال الإمام الشافعي (ت 204 هـ) في معرض بيانه حكم المفاضلة بين الربويات: لا خير في مُدّ عجوة ودرهم بمُدَّي تمر عجوة.
3- قال الأزهري (ت 370 هـ): العجوة التي بالمدينة هي الصيحانية وبها ضروب من العجوة ليس لها عذوبة الصيحانية ولا ريّها ولا امتلاؤها.
4- قال الجوهري (ت 398 هـ): العجوة ضرب من أجود التمر بالمدينة.
5- قال الداودي (ت 467 هـ): وهي من أوسط التمر. وعلق السمهودي (ت 911 هـ) على ذلك بقوله: كما هو المشاهد اليوم.
6-قال الزمخشري (ت 538 هـ): هي تمر بالمدينة من غرس النبي صلى الله عليه وسلم. قال مزرِّد:
خَلَطَتْ بصاع الأَقْط صاعين عجوة
إلى صاعِ سمنٍ وسطها يتريّع
7- قال القاضي عياض (ت 544 هـ): هو ضرب من أجود النخل ونخلها يسمى لينة.
8- قال أبو موسى المديني (ت 581 هـ): هو تمر نخلة مدنية ليست بأجودها وقيل عجوة العالية أجود تمرها.
9- قال ابن الأثير (ت 606 هـ): العجوة تمر المدينة أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد من غرس النبي صلى الله عليه وسلم.
10- قال النووي (ت 676 هـ): والعجوة نوع جيد من التمر.
11- قال ابن تيمية (ت 728 هـ): ومن حمل شيئًا من ماء زمزم جاز فقد كان السلف يحملونه، وأما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه، بل غيره من التمر البرني والعجوة خير منه.
12- قال ابن القيم (ت 751 هـ): عجوة المدينة من أنفع تمر الحجاز وهو صنف كريم.
13- قال ابن حجز (ت 852 هـ): العجوة نوع من التمر معروف.
14- وقال مفتي السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله (ت 1389 هـ): له - أي تمر العجوة - بقايا في المدينة.
15- وجعل مفتي السعودية الشيخ ابن باز رحمه الله (ت 1420 هـ): من أسباب التحصّن من السحر والشعوذة التصبح بسبع تمرات عجوة المدينة.
16- شيخنا محمد ابن عثيمين رحمه الله (ت 1421 هـ) له على الشبكة ما يؤيد ذلك.
في مجموع كلامهم أن العجوة حاضرة في أزمانهم غير أنهم يتفاوتون في تحديد لونها ومذاقها لأن التمر لا يكون على مذاقٍ وصفةٍ واحدة وهذا لا يؤثر في المنفعة الخاصة ما دام المسمى باقٍ.
وعادةً هذا الاختلاف يرجع إلى نوع التربة والمياه والأجواء وما قد يعتريها من آفات زراعية وغير ذلك.
وتدبّر قوله صلى الله عليه وسلم: (من تصبّح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية). خص عجوة العالية مع أن بالمدينة عجوات دليل على أن بعضها أجود من بعض.
قال شيخنا ابن عثيمين: (العادة أن النبات يكون حسب أرضه، كما يكون حسب مائه). وهذا يجعلنا نعرف أن تمر العجوة أنواع منه الجيد والرديء والوسط والكبير والصغير، ومنه جيد الطعم وخلافه كأنواع التمور الأخرى. وهذا التنوع لا يؤثر في خاصية التداوي بها ما دامت العجوة عجوة.
قال السمهودي نزيل المدينة (ت 911 هـ): (إيراد العلماء لها، وإطباق الناس على التبرك بعجوة المدينة وثمرها يرد التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم، مع أن الأصل عدمه، ولم تزل العجوة معروفة بالمدينة يرثها الخلف عن السلف، ويعلمها كبيرهم وصغيرهم علمًا لا يقبل التشكيك). وقال: (والعجوة بالفقِير إلى يومنا هذا).
الثاني: ومنفعة العجوة وبركتها غير مقيدة بزمنه صلى الله عليه وسلم لأن الحديث مطلق وما جاء مطلقًا حقه الإطلاق. وما كان الله ليسلب آية دالة على صدق رسالة نبيه والشريعة محفوظة بحفظه.
قال الخطابي: وصف عائشة ذلك بعده صلى الله عليه وسلم يرد قول من قال إن ذلك خاص بزمانه صلى الله عليه وسلم. يريد ما رواه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر من الدوام أو الدوار بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات على الريق. وعن ابن باز رحمه الله (أن العجوة علاج مستمر إلى يوم القيامة).
وجعل النووي فضيلة تمر المدينة عجوتها، وتخصيص عجوة المدينة دون غيرها وعدد السبع من الأسرار التي علمها الشارع ولا نعلم نحن حكمتها فيجب الإيمان بها واعتقاد فضلها والحكمة منها.
وبالتمعن فيها تجدها أشبه بالأذكار الصباحية والمسائية الحافظة لقائلها وهذا سِرّ تعلّق الناس بها.
إذًا التشافي بها والتداوي بآثارها مشاهد وواقع فكم من إنسان نعرفه تداوى بها فزالت آلامه وأتعابه. وآخر سلّت اضطرابه واكتئابه، إنها تدفع الضرر، وتذيب الأثر حكمة من رب البشر.
فمتى تصبّحت بسبع عجوات بلا زيادة ولا نقصان أدركت السنّة، ولبست الصحة.
وإلى من يستغرب بركتها فإن الدراسات الحديثة التي أجريت على تمر العجوة فاقت نتائجها العقول مما يزيد القلب اطمئنانًا مع اطمئنان، إن هذه العجوة لا يدخلها ريب ولا شك.
الثالث: والتاريخ لم يكن بمعزل عن هذه الثمرة، ففي العصر الأموي كانت المدينة مرتع خصب لزراعة النخيل لملاءمة التربة والمناخ، حتى أنها اشتهرت بكثرة النخيل وزادت أصناف النخيل فيها عن مئة وثلاثين نوعًا، أشهرها الصيحاني والبرني والعجوة.
فأصبح التمر لأهلها غذاء أساسيا بل أصبح في حياتهم بمنزلة الحنطة عند غيرهم.
فعن الواقدي أن معاوية بن أبي سفيان يجذّ من أمواله في المدينة المنورة سنويًا مئة وخمسين ألف وَسَق من التمور. وفي قرية الفرع لعباد بن حمزة بن الزبير عينان تسقيان أكثر من عشرين ألف نخلة، وغير ذلك.
ولا غرابة في زماننا أن يكثر تمر العجوة ويُجلب إلى الأسواق لملاءمة تربة المدينة وبركة يده بغرسها وبركة دعوته صلى الله عليه وسلم لصاعها ومدها وثمرها فضائل تلو فضائل. كما ساعد على ذلك الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا ننسى الطلب المتناهي لاقتنائها حرصًا على نيل بركتها.
فأهل المدينة وتاريخهم الزراعي أعرف بأصناف النخيل فالآباء يورثونها للأبناء، فبعيد أن تخفى عليهم تلكم الثمرة النبوية، التي هي قوتهم ومحل تحنيك صبيانهم، إنها أمّ التمر كما سماها أبو حنيفة، فالأم محل العناية من الجميع. ويأبى الله أن يضل عباده عن سنة نبوية، ومعجزة كونية.
الرابع: وأخيرًا اعلم أنها من دلائل النبوة ومن التشريعات الوقائية من آفة السم والسحر بخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وإنها طب إلهي باقية ما بقي الزمان، دفع الله بها ضرر سم اليهودية عنه صلى الله عليه وسلم لتصبحه بسبع تمرات عجوة.
فكن لها ملازمًا تنل فضيلة السنّة، وتحصل على الصحة بإذن الله.
والله الهادي إلى سواء السبيل.