أ.د.عثمان بن صالح العامر
الشيء الذي تذكره الإحصاءات الرسمية أن المجتمع السعودي مجتمع شبابي، وأن شبابنا مولع بالإنترنت، فهو صديق حقيقي لـ»جوجل» وتلميذ جيد لليوتيوب والفيس بوك وسناب شاب وغرف الدردشة والمنتديات، فضلاً عن أن لشبابنا وفتياتنا السبق والأولوية في التغريد والتصحف والهاشتاقات والسنابات و...، وهذا يعني أن الجيل الجديد يتلقى خطابين في جميع مفردات الحياة، الأول منهما «واقعي» يتلقاه مباشرة من شخص يعرفه ويقابله في شارع الحياة سواء أكان الوالدين أو المعلم أو الأصدقاء أو إمام المسجد وخطيب الجمعة أو الجار أو غيرهم، والآخر «افتراضي» يحصل عليه بسهولة ويسر في كل وقت وحين وعلى أي حال كان هو أو هي سيان، وربما من أشخاص لا يعرفهم لا من قريب أو بعيد، فهو في زمن دُفن فيه المؤلف والكاتب وإن كان حيا، فالمعلومات هي ما يُبحث عنها أياً كان مصدرها ومهما كانت مؤهلات قائلها وتخصصه.
ومع أن التقليديين - إن صحت التسمية - ما زالوا يعتقدون أن «الخطاب الواقعي» هو المؤثر الأقوى والمكون الأهم في شخصية الشاب اليوم، إلا أن الأرقام والمؤشرات تذكر خلاف ذلك فعدد المتابعين أو القراء والمعقبين «رتويت» بالآلاف بل الملايين، فضلاً عن أن المعايشة لمن هم في سن الشباب والجلوس إليهم ومتابعة برنامجهم اليومي تعطيك أنهم للافتراضي أقرب، ولذلك أرى لزاماً ونحن نتلقى خطابين في الفضاء الديني أن يكون خطابنا الواقعي - سواء ما كان منه أسبوعياً «خطبة الجمعة» أو تعليمياً وتفقيهاً في الجوامع والجامعات، أو إجابة للأسئلة الشرعية في الإذاعة والقنوات أو محاضرة وندوة في المساجد واللقاءات أو... - أن يكون هذا الخطاب الذي وصفته بالواقعي المعاش جامعاً بين الإقناع العقلي والرسوخ العلمي القائم على البرهان الصحيح «ثبوتاً ودلالة»، أقول هذا لأن الشاب اليوم يسألك أنت يا من تقابله وتجالسه عن أمر ما من أمور الدين التي تهمه في حياته اليومية، ويرى فيك الرجل المؤهل للإجابة عن ما عنّ له، وما أن يسمع ما تقول حتى يفتح جواله ويكتب مسألته فيجيبه نكرة ما في أي بقعة من أرض الواسعة وقد يقنعه بما أنت لم تستطع أن تقنعه به، ويورد له أقوال المذاهب المختلفة والراجح والمرجوح، ويسوق له من الأدلة والبراهين النقلية والعقلية ما يجعله لا يثق بك مستقبلاً ويستقل باستجلاب مفردات خطابه الديني من عالمه الافتراضي.
إن علمائنا وخطبائنا ومفكرين وأهل النصح والوعظ فينا أمام تحدي حقيقي مركب «لغوي وفكري وتجديدي»، إذ لا يكفي اليوم أن يحمل العالم الرباني العلم ويجلس لتدريسه محتسباً الأجر من الله بل لابد من خطاب ديني له مفردات وأساليب إقناعية تغازل ذهنية الشباب وتخترق عالمهم المليء بالأسئلة البسيطة والمعقدة بل ربما الملغمة التي قد تقودهم لا سمح الله إلى التطرف والإرهاب وربما التمرد والإلحاد.
لقد انتهت في عالم الإقناع اللغة الخطابية المألوفة والمعروفة «ملقي يعرف ويقول كل شيء، ومتلقي يصدق وينفذ ما يسمع»، وحلت محلها اللغة التشاركية الحوارية، فالشاب لا يهمه ما يقال ولا من قال بل ما يقتنع به ويفي بحجم التساؤلات عنده، ولا يطيق أن يقرأ كثيراً أو يسمع طويلاً بل يحتاج إلى رسائل مباشرة ومدللة مؤصلة، وهذا ما نجح به للأسف الشديد أصحاب الشبه وأهل الأهواء الذين يجيدون فن الإثارة والتشويق للبحث عن ما خلف السطور.
إن من يعايش الشباب في الجامعة، ويمد جسور التواصل العلمي معهم، ويتيح لهم فرصة الحوار والنقاش الحر يكتشف كم نحن بحاجة إلى إعادة طرح قضايانا الدينية برؤية عصرية، ولا ضير فالتجديد أمر كوني معروف، وسنة باقية لن تزول، وعلامة واضحة من علامات صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، وكم هي - في نظري - ضرورية العلوم العقلية التي تفتح أفق الطرفين، وتفسح المجال للأسئلة الفلسفية المقننة المصححة الخالية من الشوائب العقدية والخرافات الصوفية والتجديفات البشرية الضالة، ووزارة الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد هي المرشح الأقوى لتبني عقد مؤتمر وطني يبحث صيغة ومعالم وآليات التجديد في خطابنا الديني «الواقعي منه والافتراضي»، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.