د.عبدالله البريدي
تستهدف رؤية 2030 تأسيس مشاريع عملاقة في مجالات مستهدفة عديدة، وتستلزم هذه المشاريع موارد هائلة من العمل والمال والطاقة، مع وجوب تطوير المنظومات القائمة في القطاعين الحكومي والخاص. وكل ما سبق يحتم علينا تبني «فكر جديد» إزاء إدارة الموارد والمشاريع والتشغيل؛ لضمان أعلى مستويات الكفاءة والفعالية والجودة. وضمن الفكر الجديد الذي يلزمنا تبنيه ما يُعرف بـ «التنمية المستدامة»، أو لنقل اختصاراً بـ «فكر الاستدامة»، وتقوم الاستدامة Sustainability على ثلاث ركائز متداخلة متكاملة، وهي:
(1) ركيزة البيئة: بما يصون وينمّي جميع مكونات البيئة الطبيعية (الماء والهواء والتربة ومصادر الطاقة والأحياء بكافة أشكالها والأنظمة البيئية)، والبيئة المستحدثة (المباني والمصانع والطرق والمرافق بكافة أنواعها).
(2) ركيزة الاجتماع: بما يكرِّس الثقة المتبادلة والعدالة وحقوق الإنسان والرفاهية الاجتماعية ويفي باحتياجات الناس، حاضراً ومستقبلاً، وبما يعزز من فعالية رأس المال الاجتماعي والثقافي والديني واللغوي.
(3) ركيزة الاقتصاد: بما يزيد من رفاهية المجتمع ويعالج الفقر والبطالة عن طريق حسن استغلال الموارد وتنميتها بطريقة فاعلة كفؤة (انظر كتابي: التنمية المستدامة، 2015، العبيكان).
الاستدامة تناضل من أجل تلبية احتياجاتنا الحاضرة دون المساس باحتياجات الأجيال القادمة، مما يستلزم رشداً وترشيداً عاليين في الاستغلال والإدارة للموارد المتاحة راهناً وتلك التي يمكن أن تتاح مستقبلاً. حان وقت صبغ تفكيرنا بمنظور الاستدامة؛ في السياسات العامة وفي الآليات التطبيقية؛ في أبعادهما البيئية والاجتماعية والاقتصادية، بما ينعكس على تطبيق جيد لأسس الاستدامة، وفي الإدارة وفي التشغيل وفي المحاسبة والحوكمة والتمويل وفي كل المسارات ذات الصلة.
الشواهد التي تؤكد على ضرورة تبني فكر الاستدامة كثيرة جداً ومتشعبة ويمكن أن نضع كتاباً في هذا الباب. وللاختصار دعوني أُركّز على بعض الشواهد المتعلقة بالهدر الحاصل في جانب من جوانب استخدام الطاقة الكهربائية. الإحصائيات تشير إلى وجود بذخ كبير في هذا المجال في المؤسسات الحكومية والمساجد والشوارع والأحياء ونحوها. ومن ذلك، نجد إسرافاً غير معقول في الإنارة والتكييف. في كثير من المناسبات، أمر على مؤسسات حكومية عديدة، وقد أنارت بعض المباني والطرقات في وضح النهار، بل دخلتُ مؤسسات لم تكتف بذلك حيث تشغّل التكييف في الإجازات الرسمية، وكل ذلك يحدث بلا مبالاة؛ والأخطر دون أي رقابة أو مؤشرات ضابطة أو آليات للمحاسبة والمساءلة، بما في ذلك المساجد - للأسف الشديد - حيث يعمد كثيرون من القائمين عليها إلى تشغيل جميع أجهزة التكييف وكل المصابيح حتى لو كان عدد المصلين عشرة أو أقل، وأحياناً لا يتم إطفاء المكيفات أوقات الحر أثناء النهار، من أجل المحافظة على درجة حرارة لا تزيد على 22 أو 24 داخل المسجد!
ربما لا نستطيع أن نلومهم لأننا لم نضع أي ضوابط أو مؤشرات أو آليات، وظلت الفواتير سقفها مفتوح، فالميزانية العامة تتحمل كل شيء! في رأيي أن هذه المسألة وحدها تكفي لإقناعنا باعتناق فكر الاستدامة الذي يضمن وجود منظومة فكرية ومؤسساتية وإجرائية تمنع هذا اللون من الإسراف البغيض في الموارد، والتهديد المتنامي للبيئة من جراء استخدام كميات أكبر من الطاقة الملوثة لنا ولبيئتنا.
إذن، نحن بأمسّ الحاجة إلى تطبيق «الممارسات الخضراء» Green Practices في الأنشطة والخدمات والبنى التحتية والأبنية ووضع التدابير اللازمة لصبغها بالاستدامة ومعاييرها البيئية. ويدخل في تلك التدابير السعي لتخفيض استهلاك الطاقة المستخدمة، مما يقلل من «الأثر البيئي» لتلك الأنشطة والخدمات والبنى التحتية والأبنية، ويحقق وفورات اقتصادية كبيرة، وبخاصة أن التقديرات بشكل عام تشير إلى أن أكثر من 50% من استهلاك الطاقة في المدينة يعود إلى صيانة المباني وإدارتها بالإضافة إلى النقل الحضري، في حين تشكّل الصناعة قرابة 25% من إجمالي الاستهلاك الطاقوي (المصدر: كتابي السابق، ص 338)، وتصل هذه النسب مجتمعة في المملكة إلى نحو 90%، ويبلغ الاستهلاك المحلي للطاقة ما يقارب 38%، وتصل نسب الزيادة السنوية في الاستهلاك الطاقوي ما بين 4 إلى 5 وعلى هذا، فإنه من المتوقع - وفق تقديرات وزارة الطاقة - أن يتضاعف استهلاكنا المحلي للطاقة بحلول عام 2030م إذا استمر الاستهلاك على ما هو عليه، وهذه كارثة اقتصادية وبيئية يسعنا تجنبها عبر تطبيق فكر الاستدامة وأسسها وإجراءاتها.
وفي سياقنا الاستهلاكي الطاقوي المحلي، أشار المهندس علي الناجم رئيس المجلس السعودي للأبنية الخضراء إلى أن المملكة قادرة على توفير مبلغ 500 مليار ريال في غضون العشرين سنة القادمة، موضحاً وجود مبادرة تعاون لترشيد الطاقة الكهربائية عن طريق استخدام إستراتيجيات الأبنية الخضراء بطريقة صحيحة ودقيقة، والتي من شأنها توفير 50% من الطاقة المتوقعة عام 2035، مع الجهود المبذولة لمدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، مشدداً على أن تكون الطاقة الكهربائية المطلوبة عام 2035 (120) جيجاوات، وبهذا التعاون بين مدينة الملك عبد الله والمجلس السعودي للأبنية الخضراء من خلال المبادرة، ستنخفض إلى 60 جيجاوات، مما يوفر على الدولة أكثر من 500 مليار ريال في العشرين سنة المقبلة. وقد شدد الناجم على وجوب إدراك أنه لا مناص من توظيف إستراتيجيات الأبنية الخضراء في مدن السعودية مستقبلاً (المصدر: الناجم: الأبنية الخضراء 500 مليار في 20 سنة، جريدة الشرق، 14-2-2014م).
البعض قد يظن أن في هذه الأرقام مبالغة، والحقيقة أنها أرقام معقولة جداً، وقد أثبتت تجارب دولية عديدة أن الترشيد الطاقوي يحقق وفورات هائلة، فهل نحن مستغنون عن رقم يصل إلى 500 مليار ريال؟ فضلاً عن الفوائد البيئية الكبيرة، وهي لا تقل أهمية عن الجانب الاقتصادي.
العالم المتقدم يسعى لتقليل الاستهلاك الطاقوي بمستويات متزايدة وبقوالب مبتكرة، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. لنأخذ مثال مدينة «أيندهوفن» التي تُسمى بـ «مدينة النور»، حيث إنها مقر شركة «فيلبس» العملاقة المصنعة للفوانيس الكهربائية منذ 1891م، ومع أنها تضم مثل تلك الشركة العملاقة لم تشأ أن تكون مدينة للنور عبر الإسراف في إنارة الشوارع وأجزاء المدينة، بل العكس من ذلك تماماً، حيث راحت «بلدية المدينة» تطور أساليب للتوفير من الطاقة المستخدمة في الإنارة لأهداف بيئية واقتصادية. وبالفعل نجحت بلدية المدينة باستخدام «تقنية الصمامات الثنائية» (فورتيمو) بدلاً من المصابيح التقليدية، من دون التأثير على الجانب الوظيفي والجمالي للمصابيح. وقد تم استخدام مصابيح «الفورتيمو» بطاقة 30 واط ليعطي نفس الإضاءة التي يمنحها المصباح التقليدي (مصباح الصوديوم عالي الضغط) الذي يستهلك 50 واط أو 70 واط، وهذا يعني أن «مدينة النور» استطاعت أن توفر قرابة 57% من الطاقة المستخدمة في الإنارة، كما أن مصابيح «الفورتيمو» تعيش عمراً أطول إذ إنها تشتغل ما يقارب 50000 ساعة أي ثلاثة أضعاف المصابيح التقيلدية. وقد حددت «مدينة النور» أهدافاً بيئية لهذه «الممارسات الخضراء»، حيث إنها تستهدف تقليل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، فمثلاً تركيب 51 وحدة من المصابيح الجديدة في شارع «مينسترلان» سينجم عنه تخفيض 3.5 طن من تلك الانبعاثات، وهذا كفيل بإنقاذ غابة بحجم ملعب كرة قدم! (بتصرف من: تقرير الاقتصاد الأخضر في عالم عربي متغير، المنتدى العربي للبيئة والتنمية، 2011).
لا بديل لنا عن تبني فكر الاستدامة، ولكي نكون عمليين، فسوف أطرح في مقال قادم مبادرة عملية؛ تعيننا على حسن التطبيق للاستدامة، فكراً وممارسةً.