د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
جالت بي الذاكرة بعد عصر يوم عيد الفطر لهذا العام (1437هـ) فتذكرتُ كباراً, واستذكرت رجالاً وجبالاً في مجالهم وعلمهم, مرّت عليَّ ساعة تذكُرهم لحظات جميلة كأني في منام لطيف, وقد أحببتُ أن أكتب ما علق بذاكرتي من تلك الذكريات, معتذراً عن عفو الخاطر فيها, وأرجو مسامحة القراء عما يكون في هذه السائحة التذكّرية! فقد تكون ذكريات لا تستحق التسجيل! ومع ذلك سأكتبها وأقيدها؛ فاليوم يوم عيد, وفيه فسحة ليست في غيره, ثم لو لم يأت من هذه الذكريات إلا الترحم على أولئك الرجال لكفى.
والذكرى التي سنحتْ, وحرصتُ على تقييدها مع بعض أولئك الكبار سيكون سرداً وصفياً في غالبه, وسأكتفي بموقف أو موقفين وقد أشير إلى شيء حدثني به, وقد يكون الأمر مجرد تذكر لأول لقاء معه, بل لربما يكون هو اللقاء الوحيد, ولن أذكر هنا إلا من فارقنا من دار النصب والتعب ممن لم أكتب عنه من قبل.
فأول أولئك الكبار الذي أذكره متشرفاً به: هو سماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله وقد حضرتُ دروسه مدة وحصل لي معه بعض الذكريات, وقد سألته رحمه الله عدة أسئلة قيدت إجاباتها مع بقية أجوبة مشايخ آخرين ولعل الله يعينني للنظر فيها وترتيبها.
مرَّ بي موقف مع سماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله هو لطيف من جهة تذكره, صعب عندما وقع وحصل!
ذهبتُ مع أحد الفضلاء من جيراننا في حوطة سدير وكنا متجهين من مكة إلى الطائف قاصدين الشيخ عبدالعزيز رحمه الله وكان ذلك في عام 1419هـ، ذهبنا إلى المسجد الذي يصلي فيه سماحته وقد بكَّرنا إلى صلاة الفجر لنكون بجوار الشيخ, دخلنا المسجد وقد انتهى المؤذن من الأذان فما هي إلا مدة يسيرة حتى دخل سماحته رحمه الله، ومشى حتى كان حلَّ خلف الإمام، جلس صاحبي بجواره فلما سلَّم الشيخ من تحية المسجد مدَّ يده ليصافح عمن يمينه, فصافحه صاحبي وعرّفه باسمه فعزمه الشيخ على تناول الغداء معه! أما أنا فلم يكن دوري إلا مراقبة الشيخ, ولم أحرص على السلام عليه؛ لأني زورتُ في نفسي أن أسلم عليه إذا قام خارجاً من المسجد, وبعد صلاة الفجر مكث الشيخ يذكر الله حتى خرج أكثر من في المسجد إن لم يكن كلهم, ورأيت الشيخ يعد بيده مائة مرة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير), فقلت في نفسي: سبحان الله مع كثرة أعمالهم التي لا تستطيع أن تقوم بها مؤسسات إلا أنه يحافظ على ورده, ثم ذكرت أن هذا مما يعين على القيام بالأعمال.
قام الشيخ من مكانه متوكئاً على عصاه باليد اليمنى, واضعاً يده اليسرى على ذراع قائده, مشى الشيخ قليلاً فتقدمتُ إليه مسلِّماً, وحيث إن صوتي ضعيف من الأصل, وأظن أنه ازداد ضعفاً هيبة بالوقوف أمام هذا الجبل, فقلت: السلام عليكم, وواأسفاه لم يسمع الشيخ إلقائي للتحية! فهو مستمر في مشيه وأنا أمامه مادّاً يدي, متجهاً بجسدي إليه, مقبلاً برأسي جهة رأسه لأُقبِّله, فلم أعي إلا وضَرَبَ رأسي رأسه ضربةً رنت منها أذني! واختل وقوفي! والشيخ لا يزيد عن قول: لا حول ولا قوة إلا بالله! فأردتُ أن أتدارك شيئاً من الموقف الذي لا أُحسد عليه! فقلت مرة أخرى: السلام عليكم, قلتها: وأنا أقول هل خرج السلام بصوت مسموع! فلما سمعتُ الشيخ يرد علي السلام بهمهمته المعروفة فرحتُ, ثم سأل الشيخ عن حالي! وكأن شيئاً لم يكن! وأردف قائلاً تغد معنا اليوم, فقلت: يا سماحة الشيخ ضربة رأس وغداء! ثم مشيتُ معه حتى ركب سيارته... ذهبنا إليه في دار الإفتاء في اليوم نفسه فأعاد علينا الدعوة إلى الغداء مؤكداً ألا نتركه.
ذهبنا إلى منزله, وكان من ضمن الحضور طلبة من الكويت, جاءوا لتناول الغداء مع الشيخ رحمه الله, فلما دخلنا المكان المعد لتناول الطعام تزاحم الكويتيون جزاهم الله خيراً على السفرة التي يجلس فيها الشيخ رحمه الله حرصاً منهم على القرب من سماحته, فزاحمتهم حتى أخذت مكاناً مناسباً أمام الشيخ, كنت أتابع الشيخ في فعله, فكان في غاية الكرم واللطف مع ضيوفه, حتى أنه لما انتهى من الأكل التفت إلى من بجواره من أصهاره يسأله بصوت منخفض, هل انتهى الحاضرون من تناول الغداء؟ فقال: لا, فمكث الشيخ مكانه حتى انتهوا، فلما قاموا قام رحمه الله ثم رجعنا إلى المجلس, فطلب المشرف على الكويتيين من الشيخ أن يوجه إليهم كلمة، فقال الشيخ بعد أن حمد الله وأثنى عليه: هذه كلمة للكويتيين وغيرهم من الإخوة, ثم فسَّر لنا الشيخ سورة العصر بكلمات تشع ضياءً ثم جاءت الأسئلة فسأله صاحبي إذ كان جالساً بجواره سؤالاً عن أنهم في أمريكا يقومون بمظاهرات سلمية ينددون بفعل اليهود في فلسطين -وكان صاحبي مبتعثاً هناك ومسؤولاً عن مركز إسلامي- فهل يجوز لهم المشاركة في تلك المظاهرات حتى لا يتهمون بأنهم لا يهتمون بقضايا المسلمين؟ فأجاب الشيخ رحمه الله: هذا من البدع والمحرمات ولو كانت سلمية, فإنكار المنكر ليس هذا سبيله, والتعبد بذلك من المحدثات... خرجنا من منزل الشيخ على أذان العصر وكلنا قد ملئت قلوبنا الفرحة بالجلوس مع هذا العالم، فرحم الله شيخنا ابن باز رحمة واسعة.
في عام 1430هـ ذهبتُ بصحبة أحد المشايخ غفر الله له لزيارة رجل كبير معمر ببلدة الهياثم, دخلنا مزرعته, فإذا هو رجل قد عركته الحياة وعركها! وقد بلغ من الكبر عتياً، جلسنا إليه رحمه الله فأخبرنا أنه ولد عام 1334هـ, فسألته عن وقعة السبلة إذ بلغني أنه يعرفها, فقال: نعم, شاركتُ فيها مع الملك عبدالعزيز رحمه الله, وكان عمري 14سنة, وكان يوماً عصيباً, كان معهم في بداية الأمر الهواء وواضعين لهم متارس من الحجارة يخرجون منها بنادقهم ويطلقون علينا, ولكن كان التوفيق من الله للملك عبدالعزيز ومن معه رحمهم الله, فقلب الله الهواء لنا عليهم, وثار عليهم غبار من الأرض لعله من ركض الخيل ومشي الرجال، وكنتُ من الراجلة, فنصرنا الله.
ومن عجيب هذا الشيخ رحمه الله أنه يجيد اللغة الإنجليزية؛ لكونه عمل في أرامكو سنوات, فأتقن تلك اللغة, وهو مع ما حباه الله من علوم ومعارف سواء في الأنساب أو رواية التأريخ أو غيرها: شاعر مجيد, وقد أهدى إلينا ديوانه, ذلكم هو الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم العنقري رحمه الله, وقد توفي عام 1432هـ وقد قارب المائة رحمه الله وغفر له, ولا أدري كيف تذكرته في هذا اليوم! لا سيما أني لم أجلس معه إلا تلك الجلسة رحمه الله وغفر له.
كنت في لبنان لإلقاء دورة علمية فقلت للشيخ المنسق هناك جزاه الله خيراً من أكبر المشايخ عندكم هنا؟ فقال: قد يكون الشيخ زهير الشاويش, (بتحبوا) أن نزوره؟ فقلت: نعم, توجهنا إلى حازمية بيروت حيث يسكن الشيخ, ودخلنا عليه فبعد السلام والسؤال عن الحال, قدّم لنا رحمه الله المهلبية! ثم سألته كيف حصل على المخطوطات؟ فقال: هذا جهد سنوات, وسأقول لكم أن مخطوطات كثيرة كانت تباع بثمن رخيص عند رجل يسمى حنيشل في محل له بالرياض, وحدثنا عن كيفية ذهابه بمخطوطات من نجد إلى قطر، ومنها إلى بيروت باسم غير اسمه! وذلك لما اشترى كتباً مخطوطة من ورثة أحد علماء نجد بعد وفاته التي كانت عند حنيشل رحمهما الله.
قال الشيخ بعد حديثه هل أنا أجزتكم في رواية الحديث عني؟ فقلت: لا, فإني أول مرة أراك غفر الله لك, فطلب أوراق الإجازة بعد أن أجازنا جميعاً وكنا ثلاثة وختم عليها, فودعناه رحمه الله بعد الشكر له على حسن الضيافة.
رسخ في الذاكرة لقاء وحيد مع اللغوي والتربوي والعبقري الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله الرويس رحمه الله حيث ذهبت بالشيخ سعد الحصين رحمه الله لزيارته حين طلب مني ذلك, قال الشيخ سعد: هذا الرجل الذي سنذهب إليه معه كمبيوتر إلهي! فهو عجيب في الحفظ يحفظ الألفيات كألفية ابن مالك، وألفية العراقي, وألفية السيوطي, غير حفظه للمتون الأخرى!
فتح لنا باب منزله مرحِّباً وفرِحاً بالشيخ سعد فتجاذبا أطراف الحديث في أمور كثيرة, وكان الأستاذ عبدالعزيز الرويس يستشهد بأبيات من الألفيات فيقول مرة قال ابن مالك, ومرة قال العراقي!
جاء ذكر موضع في شعر أحد الشعراء المتقدمين فقال: وهم الشيخ عبدالله بن خميس رحمه الله في تحديد موضعه؛ لأن الشاعر قال قبلها كذا, وهذا مكان معروف جهة الخرج.(كنتُ كتبت تصويبه للوهم, وأظن أنه «جو اليمامة»).
قال: إنه درس على مفتي الديار محمد بن إبراهيم رحمه الله, ويقول عنه: هذا باني العلماء والقضاة في هذه البلاد. ويقول: تخرجت في كلية اللغة العربية عام 1378هـ. وقد عرض عليه القضاء في محكمة الرياض فكتب قصيدة إلى الشيخ محمد رحمه الله يستعفيه منه فأعفاه.
كان منافحاً عن اللغة العربية, ويكتب الشعر فيها, وقد أهدى ديوانه إلينا «حصيد الزمن» وأذكر منه قوله في رثاء الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:
فكم قلتَ في التوحيد رأياً محققاً
وحلَّلْتَ كتب الفقه بالمنطق السلسِ
توفي الأستاذ عبدالعزيز رحمه الله عام 1434هـ.
وممن جاءتْ بهم الذاكرة أبا عبدالمجيد عبدالرحمن بن عبدالله آل عبدالكريم رحمه الله وغفر له الذي حدثني أنه ولد قبل وقعة السبلة بخمس سنين أي عام 1342هـ, كان غفر الله له مهتماً بصحته, حيث قال: منذ أكثر من أربعين سنة لم أترك رياضة المشي, يقول: مرة كنتُ في المغرب, وكانت السماء تمطر, فأخذتُ المظلة, وذهبت للمشي في ساحة الفندق والسماء تنزل بمطر منهمر, كل هذا لئلا أترك هذه الرياضة النافعة.
وكان يحدث عن نفسه رحمه الله أنه -وعمره قد قارب التسعين- يصعد الدرج شفعاً لا وتراً, وكان يكتب الفوائد والحكم التي يقف عليها, ويزود بها من يزوره, وقد أعطاني مجموعة من الأوراق فيها حِكماً وفوائد ونصائح طبّية, كان يقول: كُل الماء واشرب الطعام! ثم يقول هل تعرف كيف يكون ذلك؟ ثم يجيب فيقول: امضغ الأكل جيداً حتى يصبح كالماء, فإنك ستجد المعدة تقول لك شكراً!
كان رحمه الله يكتب دواوينه بخطه الجميل رحمه الله توفي رحمه الله عام 1436هـ, وقد كتب الشيخ سعد الحصين رحمه الله عنه مقالاً نشر بعنوان (أبو عبدالمجيد أستاذ الأجيال).
أختم هذه الذكريات بأنني كنت مرة في مجلس العلامة المحقق أبي سليمان عبدالرحمن العثيمين رحمه الله بعنيزة وكان في المجلس ابن عمه المؤرخ الدكتور عبدالله العثيمين رحمه الله فحدثنا أنه ذهب مرة إلى سوق أشيقر بالرياض فدخل محلاً ليشتري شيئاً منه, وكان البائع فيه من إخواننا من أهل اليمن، والدكتور عبدالله لباسه ومظهره المتواضع لا يُظهر بأنه عالم في تخصصه وأنه من أهل الإطلاع, فقال لصاحب المحل: بكم هذه؟ فقال: بخمسة وثلاثين ريالاً, وقيمتها في نظر الدكتور أقل من ذلك, فقال الدكتور: سآخذها بخمسة وعشرين أو بعشرين الشك مني, فقال البائع وكان مثقفاً: فظيع جهل ما يجري! ففطن الدكتور لمقصده وإشارته! فرفع إليه رأسه مكملاً عجز البيت: وأفظع منه أن تدري! فعرف البائع بعد أن بدت عليه علامة التعجب أن الذي أمامه ليس مجرد كبير سن من عوام الناس, فقال: خذها بلا ثمن, فأبى الدكتور عبدالله إلا أن يدفع قيمتها, خرجنا من مجلس الدكتور عبدالرحمن بعد أذان العشاء, فقال الدكتور عبدالله: تناولوا العَشاء معنا, فقلت: أكرمكم الله, بإذن الله عشانا في سدير, فقال: أرض سدير بعد نزول الأمطار ووقت الربيع من أفضل أراضي نجد التي يمكن قصدها؛ فإن أنواع الزهور والأعشاب تخرج بأرضها ما لم أجده في بقية بقاع نجد حتى بلدنا القصيم, فقلت: بإذن الله يأتي الربيع, ونتشرف بدعوتكم، فقال: الشرف لنا.
بقي رجال تستمطر الذاكرة مواقفهم لعل الله يمنّ بفسحة من الوقت؛ لأقيدها في عيد آخر بإذن الله.