د. خالد محمد باطرفي
قدر. هذه البلاد أن يرنو إليها قلب كل مسلم آمن بأركان الإسلام الخمس، وفي أرض الله الواسعة قرابة مليار ونصف المليار منهم. وقدرنا العظيم أن نستضيفهم، ونتشرف بخدمتهم، ونسهم في وحدتهم، وألفة قلوبهم، ووحدة صفهم.
فبعد أن تشرف الإمام الموحد عبدالعزيز بخدمة الحرمين الشريفين إثر دخوله مكة المكرمة في أوائل عشرينيات القرن الماضي بإحرامه لا بسيفه، كان أول ما فعله أن دعا إلى مؤتمر إسلامي لمناقشة إدارة الديار المقدسة، ومساهمة ممثلي الأمة الإسلامية في خدمتها. واختتم المؤتمر بأن أجمعت الأمة على استحقاق حكومة الإمام عبدالعزيز لهذا الشرف التاريخي الجليل، الذي توارثته الخلافات الإسلامية حتى انتهى إلينا.
ولما تفرقت الأمة العربية بعد خروجها من تحت مظلة الخلافة العثمانية، ووقوعها في براثن الاستعمار، أنشأ خادم الحرمين الشريفين الملك سعود بن عبدالعزيز رابطة العالم الإسلامي؛ لتجمع الشعوب بمذاهبها وأطيافها كافة، وحتى خلافاتها العقدية والفكرية والسياسية، تحت لواء الشهادتين، وخلف أئمة الحرمين الشريفين.
وجاء الشهيد فيصل بن عبدالعزيز ليواصل ما بدأه أبوه وأخوه؛ فدعا لمؤتمر قمة إسلامي في مكة المكرمة، ووافق على استضافة المغرب له، وحرص على دخول إيران الشاهنشاهية ومصر الناصرية ودول بعثية واشتراكية فيه، رغم الخلافات والاختلافات والمخاوف. ولما تمخض المؤتمر عن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بارك اختيار رئيس إندونيسيا تنكو عبدالرحمن أمينًا عامًّا لها.
وعلى هذه السياسة الواسعة الصدر والقلب والفكر مضى خلفاء عبدالعزيز. فلما دعا خادم الحرمين عبدالله لمؤتمر الحوار الإسلامي في مكة المكرمة كانت الطوائف الإسلامية من أهل القبلة كلهم ممثلة فيه. ومددنا يدنا منذ قيام رابطة العالم الإسلامي للآخر من أهل الكتاب؛ فزار وفدها برئاسة الشيخ محمد علي الحركان الفاتيكان؛ ليبدأ حوار بين أمة الإسلام وأهل الكتاب، استمر، ثم غفا، حتى أيقظته مبادرة الملك «المصلح» عبدالله للحوار بين الأديان، تمثلت فيها طوائف المسلمين جميعها.
إذن، نحن أمام رؤية حكيمة مستنيرة، لا تقيدها الخلافات والاختلافات العقدية، هدفها الأسمى والأعظم التضامن الإسلامي في مواجهة الأمم التي تكالبت علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها. ويبقى الحوار مفتوحًا بين العلماء والفقهاء المستنيرين في التفاصيل المختلف عليها، وكلهم يحسب أن الحق معه، ولكنه لا يستبعد أن يجده عند غيره، فإن وجده أخذه بقلب وعقل مفتوح، ولم يكابر أو يتحزب أو يتعالى عليه. والله وحده يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
جنة الله عرضها السماوات والأرض، فكيف لا تتسع إلا لفرقة واحدة؟!
واليوم نجد أنفسنا مرة أخرى أمام الرؤية الضيقة الأحادية الحدية التي واجهت الإمام عبدالعزيز، وحسمها في معركة السبلة، ثم واجهت الملك الصالح خالد، وحسمها في الحرم الشريف.. ثم واجهت - ولا تزال - إخوته أئمة المسلمين، وخدم دينهم وكتابهم، وهم يواجهونها بالشدة مع المعتدي، والمناصحة مع المغرر به، والتسامح مع التائبين.
أقدم ما سبق لأرد على من يريد أن يبقى المسلمون في دوائر الخلاف والاختلاف والعداء مع بعضهم. وإن لم يجد ما يتصيده في حاضرهم قلب في ملفات الماضي بحثًا عن اختلافات فقهية واختلافات سياسية وعداوات، دفنها التاريخ، وتجاوزتها الأحداث. يصرون على إعادتنا إلى أزمنة الفتنة التي لو عاش رموزها اليوم لرجونا أن نرحمهم من ذنوب اشتعال نارها، واحتراق البلاد والعباد بها ألفًا وأربعمائة عام، ولا تزال. ويصرون على استقراء الحاضر والمستقبل بقناديل الماضي المحترقة، واستقراء النفوس والقلوب بمناظير سوء الظن والغيرة والكراهية.
كأنما خلونا من هموم العيش والأمن وعمارة الأرض، وانتقلنا إلى مرحلة استيلاد الأعداء. وكأنما لا نعيش على بحيرة نفط، تحيط بنا المخاطر والحرائق والفتن. وكأننا في هذه المنطقة لسنا مستهدفين جميعًا، أغنياء وفقراء، عربًا وعجمًا، سنة وشيعة، سلفيين وصوفية، فقط لأننا نحول دونهم ودون تحقيق نهاية العالم (أرماغادون) بقيام دولة إسرائيل الكبرى على أشلاء المسلمين، وعاصمتها القدس.
أعود إلى قدر هذه البلاد فأقول إنه الاحتواء. نحتوي الأمة كالأم الحنون، ونقودها كالأب الحكيم، ونحاورها كالأخ المستنير، ونخدمها كالأخت المعطاء، حتى مع العاق والضال والجاحد. نؤلف ونجمع ونوحد.. ننير ونستنير.. ونوجه الجهود كلها إلى ما رفع له الإمام الموحد عبدالعزيز لواء الشهادتين، وتعاهد أبناؤه عليه، واستشهد الفيصل من أجله.. نصرة الإسلام ونهوض الأمة.. وزوال «طاعون» إسرائيل.