عبدالعزيز السماري
في ثقافتنا المعاصرة طغت مقولة «الشيطان في التفاصيل» على مختلف المقولات التي سبقتها ولحقتها، وتعود المقولة في الأصل إلى «الله في التفاصيل»، وكانت مقولة مشهورة ومتداولة في الحضارة المسيحية قبل قرنين من الزمان، ثم خرجت منها بعد ذلك مقولة الشيطان في التفاصيل، ثم الحكومة في التفاصيل، وهكذا، وتختلف المعاني حسب استخداماتها عند التعبير عن أمر ما.
لكن مقولة الشيطان في التفاصيل راجت في الثقافة العربية المعاصرة، وكأنهم وجدوا ضالتهم في هذا التعبير على وجه التحديد، والذي يحكي بعضاً من أوجه الأزمة، فالانحياز موجود في صورة متضخمة في التفاصيل، كذلك تجد مرابع الفساد تسود مساحات التفاصيل، وتهيمن بقدراتها على تطويع التفاصيل لمصالحها، لهذا يصرخ الجميع «الشيطان في التفاصيل»، وليس في الخطوط العريضة.
ربما تتضح الصورة أكثر عندما يسافر أحدنا لدولة أوروبية على سبيل المثال، ثم يخرج من المدن الكبرى إلى حيث التفاصيل في الأرياف، عندها تتضح الصورة، فالحضارة تكمن بالفعل في التفاصيل، وتشاهدها في ارتفاع مستوى الخدمات في مختلف أصغر القرى والضواحي والأماكن النائية، كما تبرز في الشوارع الصغيرة، وفي التزام الإنسان الصارم بحقوق المشاة في الشوارع، وبالانضباط المروري التام.
كانت التفاصيل في غاية الروعة عند تأمل البيئة، والتي تلقى اهتماماً بالغاً من الجميع، وتبدو في كامل زينتها بسبب تدني مستويات التلوث البيئي، كما تظهر في انعدام مناظر مخلفات المباني في الأودية، أو في تصاعد الروائح المؤذية من المستنقعات المائية، وتبرز في اقتراب المظاهر العامة بين الناس، فلا توجد عمالة سائبة أو شحاذة عند الإشارات المرورية، والتي تُعتبر أحد أهم إفرازات عفريت المصالح الذي يسكن في التفاصيل..
كان من أهم ملامح التفاصيل ذلك الغطاء القانوني في مختلف تعاملاتهم، فالتواصل من خلال تفاصيل القانون يُعد مهارة ودليل تقدم اجتماعي مذهل، وذلك لأن القانون يسري على الجميع بدون استثناء، لذلك من السهل أن تحمي حقوقك في بلادهم، إذا كنت تتعامل معهم من خلال القانون، أو تتقن لغة القانون ومصطلحاته، وذلك متطلب أساس لأي مجتمع يسعى إلى توطين أوجه الحضارة في التفاصيل.
كذلك تبرز في عصر «الحضارة في التفاصيل» غياب الصور الكبرى، والتي عادة تُستخدم لإخفاء التفاصيل، كما تختفي المقولات العظمى، والتشدق بالأقوال الخالدة، ولكن تطفو على السطح تفاصيل المنجزات الحضارية، وتذوب في أعماق المجتمع مختلف الصور والمقولات والأيدولوجيات، كما تتحول الوطنية إلى أرقام ومنجزات ومعدلات تنموية وصحية وتعليمية.
لا شك أن الفارق الحضاري بين الفشل العربي والمنجز الأوروبي يحكي مختلف التفاصيل، لكن علينا أن نحاول دائماً توثيق تلك الحكاية بكامل فصولها، لعل وعسى أن تتحرك الجهود نحو ذلك الطريق، فالإنسان مهما تشدق بمقولات أو صور أو جغرافيا، ستظل المنجزات على الأرض المقياس الرئيس لنجاحاته، وسينسى التاريخ كل الألسنة التي حاولت تزييف الحقيقة من أجل حفنة من مال أو منصب أو جاه..
بكل أمانة تعيش دولنا العربية بعض أوجه زمن الفشل مرحلة «الشيطان في التفاصيل»، والتي أفسرها بالمصالح الشخصية التي تجري خلفها بعض المشاريع والطرق والمنجزات وعدد من القرارات، وما زالوا في أقصى درجات البعد عن زمن الحضارة في التفاصيل، والتي تعني أن تصل الخدمات والحقوق إلى الجميع بدون استثناء..
الطريق إلى زمن الحضارة يبدأ بخطوات التعليم ومشاريع التنمية، إذا تخلت مجتمعاتنا العربية تماماً عن العفاريت التي في التفاصيل، والتفرغ لمهمة إيصال الإنسان إلى مرحلة الوعي بالحضارة، ومن ثم إخراج الحالة العربية من وضع الغيبوية الحضارية، والتي من أهم أسبابها الجهل والأمية المعرفية، وذروتها أن يقبل الإنسان أن يكون إمعة لغيره، ليتحكم فيه كيفما يشاء، والله المستعان.