د.فوزية أبو خالد
ما أن يأتي العيد إلا وأجد نفسي مثلكم منغمسة من أطراف أصابعي إلى رسغي ومن مدة ساعدي إلى رمانة كتفي في حبر المعايدات للبعيدين عنا في هذه الأيام الفضيلة الفياضة, بملاحقتهم عبر كل أشكال الأثير الإلكتروني من الواتساب إلى الإستنجرام ومن التلغرام إلى السناب تشات والفيسبوك وتويتر لنصافح قلوبا نحبها وتحبنا من الأقارب والخلان ولنلوح لوجوه بعضها لم نلتقها منذ زمن وبعضها لم نلتقِها إلا في فضاء الخيال من العوالم الافتراضية. أنحي الفراق, اختلاف المشارب والأطوال والأحجام والقدرات والملكات والنوع الاجتماعي ذكورا وإناث، أنحي أطياف البشرة والأصول العرقية والإثنية وتباين المذاهب والثقافات، أنحي الجدل والمشاحنات. أنحي كل أشكال الاستفزاز والتنابذ والتصنيف من الليبرالي إلى المحافظ فلا يبقى من كل ذلك التعدد المسيس وكل تلك الاختلافات السياسية إلا ما يدل على جمال التنوع مجسدا في قامتين شاهقتين شفافتين، وهما قامتا آدم وحواء عليهم السلام...
أُنظف لواعجي مما لم يشف بعد من جروح التحشيد الظالم والمحاسبات الموجعة التي لحقت بي على استقلالي الفكري, أتوضأ عما سلف من مظالم مني أو ضدي، أستوي مع الجميع كما يستوي المصلون في الصلاة, وأحرر حبري ومفاتيح كمبيوتري من كل أسباب الفرقة والبعاد عبر التاريخ والجغرافيا,لأستنشق عيدا مصفى من العوادم. ولأكتب معايدة شفيفة لآدم وحواء معا... تلك النفس الواحدة التي انسللنا منها شعوبا وقبائل نساء ورجال بنات وأولاد عمال وفلاحين, تجار وصناع، مكتشفين ومبدعين لنتعارف لا لنتعارك، ولنتعايش على قدم المساواة من اللحظة التي ولدنا فيها أحرارا لعمارة الأرض.
فكيف لروحي وجسدي أن يعبرا كل هذا الحريق من أنهار الحنين ومن شلالات الأشواق ومن بحور شجن العيد ومن بحيرات وعيون ومحيطات معاندة اليأس بالأمل عبر مناسبة العيد دون أن تنفلت مني طيور الروح وجياد الجسد جنوبا لأقبل التراب الذي يقف عليه شباب يافع من جنود صغار مبعدين عن أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم وبيوتهم ليكون لنا وطن ينعم بالسلام لنستطيع أن نستقبل على أرضه العيد؟!
فإلى صبايا نجران وجيزان وصبيا وشرورة وطريف والقطيف والهفوف وعفيف وعسفان وبدر والعلا والحديثة والسقا أملج ورفحاء والحريق والليث والخرج والفلاج والخميس والحفر وظبا والوديعة وإلى شابات كل فج وكل جبل وكل واد وكل ساحل وكل فلات وكل شبر من هذي البلاد, ممن مر العيد بقلوبهن الطرية وهي معلقة على حبال العشق لشباب لا يهاب الحياة فوهب نفسه للموت ليجدل لوطنه بدمه أسباب الحياة... أتقدم بمعايدة تقطر حياء من بطولة المكابدة والصبر التي تقدمها كل زوجة لم تفرد ثوب العيد على جسدها ولم تنتشي برشة عطر أو تفرح بنقش الحناء في انتظار عودة الفارس من جبهة الجنوب.
أقبل جبهة مريم وهاجر وشمسه وعبير وحصة ونورة وبدرية ورقية وعفراء وهداية وشما ومزنة وسارة ونوال ولولوة ومنيرة وهدى وموضي وجواهر وعزة ونور وآمنة وبسمة وغادة وميساء وهي أسماء مأخوذة من قائمة بعض من أمهات الشهداء أبطال السلام على الجبهة الجنوبية ممن صدوا نيران الاعتداء الحوثي على سكان نجران المسالمين بدمائهم الزكية التي كتبوا بمدادها حياة جديدة على الحدود. فليس بعد أن قدمن للوطن نور البصر ونبض الفؤاد وفلذات الأكباد تضحية أو إيثار أو فداء.
وأتقدم بخجل من قلوب جميع أمهات الشباب المرابط على الجبهة الوطنية في الشدة والرخاء وفي الأيام العادية والأعياد ممن قدمن أغلى ما يمكن أن تملكه الأم وأحلى ما يمكن أن تراه الأم وأعز أمنيات الأم في الحياة وهم الأبناء شركاء دم الأمهات ومستودع الأسرار، ليس استرخاصا لحشاشة الفؤاد ولكن إعزازا وإكراما لما لا يقل غلاوة عن الأبناء وهو الوطن.
أما أطفال هؤلاء الأبطال من الشهداء ومن الأحياء منهم فليس في الشعر ولا في النثر ولا في المعلقات ولا في قصائد الومضة ولا في الدموع ولا في الغمام ما يكفي من ماء ولا ما يفي من حروف لكتابة كلمة واحدة في حق هؤلاء الأبرياء إزاء غياب الآباء عن أطفالهم في العيد.
أي عيدية تعوض طفلا عن مرافقة أبيه لشراء ثوب وغترة ومشلح العيد والمشي معا يدا بيد لصلاة المشهد، أي عيدية تعيد للطفل زهو الأجنحة الذي غالبا ما يقوم اليتم بانتزاعه ريشة ريشة، أي معنى للعيد عند أطفال كبرهم الفقد الأبوي وبيض شعر مشاعرهم على حين غرة وحليب الطفولة لا يزال بعد على شفاههم؟
لا أظن أن الدولة تروم إلا إكرام هؤلاء الأشاوس من جنود الجيش والحرس والأمن ممن يناط بهم حماية الأمن الداخلي والخارجي الذي يشكل عامودا أساسيا من أعمدة شرعية الدولة وسلم المجتمع.
وبما أن عيدية الجنود وأسرهم مهما بلغت لن تضاهي عيديتهم السخية التي يجودون فيها بأرواحهم, فلا أقل من عيدية تضمن لهم ما عاشوا وعاشت أسر الشهداء منهم والأحياء سكنا ضافيا، وتعليما ضافيا وعلاجا ضافيا وتكريما ضافيا برصيد لا يقل عن مليون بعد تأمين السكن والعلاج والتعليم مع مصروف لا يقل عن متوسط من دخولهم فوق المتوسط وذلك بطبيعة الحال لا يقل عن عشرة آلاف شهريا. مع تسمية شوارع ومدارس وطوابع بريد بأسمائهم وصورهم وهذا أقل عيدية رمزية لمن عاهد على أمن الوطن وعايد الوطن بروحه.
هذا ليس معروض استعطاء مقابل تضحيات جنودنا البواسل «الذين الله وحده أعلم برقة حالهم واستعفافهم», ولكنه كلمة حق في حقهم فلا يكفي في حقهم بعض الخطب والأناشيد وصور الحنان مع أطفالهم, فتلك لمسات رمزية ولكنهم يستحقون الوفاء قولا وعملا. ليحول الله رياح الحرب إلى برد وسلام وتحولات سلمية تعزز من أمن الوطن ووحدته الوطنية.