د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
توالت الأحداث في أمريكا بشكل درامي ووصلت إلى ذروتها في مدينة دالاس حيث أطلق قناص سابق في الجيش النار وقتل خمسة رجال شرطة وجرح سبعة آخرين. وكالعادة تم القضاء فوراً على القناص ولكن هذه المرة بقنبلة محملة على رجل آلي، ثم سردت علينا الشرطة مجموعة من التصريحات نقلاً عنه ونسبة إليه، منها أنه أراد فقط أن يقتل البيض وخاصة رجال الشرطة منهم، وقرأ البيان على شاشات التلفزيون رجل شرطة أسود! واتضح فيما بعد أن الجاني عضو في مجموعة مسلحة أطلقت على نفسها اسم «القوة السوداء»، أعادت إلى الأذهان مجموعة مسلحة نشطت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات تسمى «الفهود السود». وكانت الشرطة الأمريكية قد قتلت 258 من الأمريكيين الأفارقة في حوادث اعتقال في عام 2015م، وقتلت أيضاً 136 من الأمريكيين الأفارقة في 2016م وكان آخرهم ألتون ستيرلنج الذي قتل في «باتون روج» في ولاية لويزيانا، وفيلادو كاستيلي الذي قتل في ضاحية «سانت بول» مينوسوتا. والاثنان قتلا في أسبوع واحد، وتم تصوير حادثتي تصفية ستيرلنج وكاستيلي حيتين على الهواء بفيديو الجوال بشكل أبرز عنف ووحشية رجال الشرطة البيض في التعامل مع المشتبه بهم السود.
أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فوجد نفسه في وضع لا يحسد عليه، حيث صرح معقباً على قتل كاستيلي بقوله «هذه ليست قضية سود أو ملونين هسبانين، هذه قضية أمريكا برمتها»، وأضاف أنه من الصعب على أمريكا أن تتجاوز التراكمات الاجتماعية في تاريخها» وهو يلمح للتاريخ العنصري في أمريكا. فوجود رئيس أمريكي من أصل أفريقي لم يسهم في القضاء على التفرقة العنصرية في أمريكا، وفور تصريحه هذا حصلت مجزرة دالاس، مما جعل بعض المعلقين يلمحون أن كلمة أوباما احتوت نوعاً من التحريض غير المباشر على الشرطة الأمريكية.
القضية تتجاوز هذه الأحداث إلى النظام البوليسي والعدلي في أمريكا برمته، فنسبة إيقاف وتجريم السود في قضية حيازة مخدرات مثلاً تتجاوز بسبعة أضعاف الحالات التي تطبق على البيض في حالات مماثلة. ويشكل السود، والملونون (غير البيض) 30% من السكان، و60% من المسجونين في أمريكا. وحسب مصلحة العدل والإحصاء في أمريكا، 1 من كل 15 من السود دخل السجن، يقابله 1-36 من الملونين، و1-116 من البيض. ويتعرض السود والملونون للتفتيش عند الإيقاف بنسبة تتجاوز 3 أضعاف تلك للبيض. ويوجد في أمريكا أكبر نسبة للمساجين في العالم، وقد تضاعف أعداد المساجين في أمريكا 800% في العقود الثلاثة الأخيرة.
ولا يتعرض السود والهسبانيون للتفرقة من قبل البوليس فقط، ولكنه يتعرضون لأحكام أشد في المحاكم، وعقوبات أشد في المدارس والمعاهد. وحسب النظام الأمريكي الذي يلغي حق التصويت الرئاسي لمن سبق وحكم عليهم في مخالفات، فإن هناك أكثر من 5 ملايين أمريكي لا يحق لهم التصويت غالبيتهم العظمى من السود والملونين، فنسبة 13% من السود سحب منهم حق التصويت الرئاسي. ويتعرض السود للتفرقة في الوظائف، والرواتب، والمساكن أي أنهم يتعرضون للتفرقة في كامل مناحي الحياة. وتبقى أنظمة المساواة بين الأعراق حبيسة أروقة الدولة دون تفعيل حقيقي.
وبعد حادثة دالاس توقعت وسائل الإعلام وعلى رأسها «سي إن إن» أن الحادثة ستزيد التعاطف مع الشرطة التي يسمونها للتبجيل «قوة فرض القانون»، وحاولت فعلاً رفع درجة التعاطف معهم، ولكن المظاهرات خرجت في كل مكان لتخالف هذه التوقعات، وظهر عدد كبير من البيض متعاطفون مع إخوانهم السود في رفع شعار «حياة السود مهمة» إشارة لتساهل الشرطة الأمريكية بها، وكأنما التظاهرات لم تعبأ بما حدث للشرطة في تكساس.
وهناك جدل كبير قائم في أمريكا يقوده مثقفون وناشطون في حركة الحقوق المدنية حول جدية النظام الأمريكي في التخلص من التفرقة العنصرية إذ لا يزال السود معزولين في أحياء خاصة بهم، ولم يتغير في حالهم شيء. أحياؤهم فقيرة مهملة، تتفشى فيه الجريمة، وتتدنى فيها الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة. وهي تعمق إحساس ساكنيها دائما بأنهم معزولون عن الحياة العامة الأمريكية. وبما أن البلديات في المدن، والمقاطعات الأمريكية تصرف على الخدمات من دخل الضرائب المحصلة فيها، فمستوى الصرف على بلديات المناطق التي يسكنها السود مخجل، لأن الشركات وقطاع الأعمال تتجنبها. فبلدية ديترويت مفلسة تقريبا والجامعات بها فقيرة، والأجيال فيها تتوارث الجهل. وقد أضرب رجال الأمن عدة مرات في هذه المدينة بسبب عدم استلامهم لرواتبهم. وجميع مدن أمريكا الرئيسة كشيكاغو، ودالاس، ولوس أنجليس مقسمة على أساس عرقي، ويرى كثير من الحقوقيين أنه لا يمكن القضاء على العنصرية بدون انصهار الأعراق في أحياء سكنية مختلطة، وهذا ما تعارضه أغلبية البيض في البلاد. ومع ازدياد الصلاحيات الممنوحة للشرطة بعد أحداث 11/9، وتلاشي الكثير من الحقوق المدنية التي حصل عليها الشعب الأمريكي بعد نضال طويل في الستينيات والسبعينيات، فالوضع مرشح للتفاقم، ولمزيد من الانقسام داخل المجتمع الأمريكي. فما تبين لا يعدو كونه قمة الجبل الجليدي.