علي الصراف
واحدة من أهم أوجه الإبداع إنه بينما يذهب ظاهره في اتجاه يمنح المتعة، فإن معناه الداخلي يذهب في اتجاه يزيد وهج الوعي اتقادا.
والرمزية واحدة من أدوات الإبداع الخالدة. منها ما قد يقترب كثيراً من السطح، فيزول، ولكن منها ما يدوم ويعطي.
هل كان «الرحابنة» يتأملون في طبيعة النظام السوري المجاور قبل أن يكتبوا مسرحيتهم الغنائية الشهيرة «بيّاع الخواتم»؟
لا أدري. ولكن مطابقات الرمزية في ذلك العمل، تغري بالكثير.
في ذلك الوقت، كان ذلك النظام يقطع يد كل من يكتب شيئا ضده. ولكنه تطوّر، بعد ذلك، حتى صار يحطم الرؤوس ويعلق الجثث (قبل ظهور داعش)، إنما داخل مراكز المخابرات، حفظا للمظاهر.
ولكن الرحابنة أفلتوا من العقاب، ربما بفضل ما لم يفهمه النظام من رمزيتهم، أو ربما لأن الاعتداء عليهم كان سيلحق وصمة عار تاريخية بهذا النظام «التقدمي»، وذلك قبل أن يُصبح بوسع تلك التقدمية أن ترتكب الفظائع بكل من حاول أن يستنشق شيئا غير هوائها الفاسد.
دع عنك الأغاني الجميلة، والمرح الإنساني النبيل، الذي ظل يلازم معظم أعمال الرحابنة. ولكن إشارات ضمنية كانت تكفي للكشف عن المطابقات في «بياع الخواتم».
تمضي الحكاية على النحو التالي: مختار البلدة (أو ما يعادل «الرئيس المناضل») أراد أن يضبط شؤون بلدته، فاخترع عدوا اسمه «راجح»، وقرر أن «يصمد» أمامه و»يتصدى» له.
وأضفى المختار على هذا العدو طابعاً أسطوريا. وكان ذلك ضرورياً لكي يحكم قبضته على البلدة. فكلما أثار الخوف من راجح، كلما أصبحت الحاجة إلى سلطة المختار ماسة أكثر.
ولأنها سلطة خوف، فقد كان المختار هو وحده الذي ينام مرتاح البال، لأنه هو الذي اخترع راجح وهو الذي كان يحوك القصص عن فظائعه، ليمارس أكثر منها بحجة أنه يتصدى لراجح.
ومثلما لم يتعرض راجح لإطلاقة نار واحدة من جانب شرطة المختار، في المسرحية الغنائية، فإنّ إسرائيل (العدو الفعلي المجاور) ما تزال تشهد للمختار أن قواته لم تطلق ضدها طلقة واحدة على مدى أكثر من 40 عاما.
وبرغم كل ذاك السلام العملي، فقد ظل راجح موجودا، وظلت المؤامرة التي يحوكها راجح شغلاً شاغلاً لكل أهل البلدة.
وفي حين أن راجح كان ضرورياً لتحويل البلدة إلى سجن يقع تحت سلطة نظام أمني صارم، فإن لصوص البلدة (من أتباع الرئيس المناضل نفسه) وجدوا في راجح فرصة سانحة. فكانوا ينهبون، ويلقون باللوم على ذلك «المجرم» راجح، وعلى المؤامرة التي يُحبكها ضد أمن البلدة.
وهكذا، فقد نجح المختار في الجمع بين أفضل ما في العالمين: النظام الأمني الصارم، القائم على إثارة الخوف من راجح، وإتاحة الفرصة لجماعته لكي ينهبوا باسم راجح.
وكلما احتاج المختار إلى شاهد يثبت وجود راجح، فإنه كان يلجأ إلى بنت أخته ريما (حزب الله، فيما بعد) لتؤكد أنها رأته.
وظلت ريما تكذب، وتكذب، حتى جاء يوم ودخل إلى البلدة رجل يبيع الخواتم للراغبين بالزواج. فلما سأله أهل البلدة عن اسمه، قال: راجح.
فُزع الناس وفروا وثارت البلبلة في البلدة. وظل بياع الخواتم حائراً لا يعرف ماذا يفعل. إذ لم يخطر على باله أنه خطير إلى تلك الدرجة، وأنه يمتلك قدرات أسطورية للقيام بكل تلك الأعمال التي نُسبت إليه.
دافع راجح (الحقيقي) عن نفسه، ولم يجد المختار بُدا من أن ينسب كل أعمال «الصمود والتصدي» ضد مجهول. وانتهت الحكاية بالزواج بين ريما وابن راجح (وهو أمر يشبه زواج المصلحة بين حزب الله وإسرائيل). أما المختار في الجوار فقد عاد ليبيع نوعاً آخر من الخواتم سماه «المقاومة والممانعة»، إنما لراجح أكبر، هو «الإمبريالية».
بعد سنوات طويلة من عرض تلك المسرحية، كانت سلطة المختار قد كبرت حتى أصبح لديها عشرون جهاز مخابرات. وطبعا، من دون أن تطلق طلقة واحدة على راجح. واكتفت بأن تسلخ جلود الناس، لأنها، (شو؟)... تتصدى لراجح. وعلى الرغم من أنها كانت تحصي على الناس أنفاسهم، إلا أنها فشلت (ويا للعجب) في إلقاء القبض على المسلحين الذين تزامن ظهورهم (ويا للمصادفة) مع التظاهرات التي اندلعت احتجاجا على سلطة المختار وفظائع أجهزته. وكلما سأل الناس من أين جاء أولئك المسلحون؟ قال المختار: إنه راجح. وكلما زادت الظروف التي تمر بها البلدة تعقيدا، قال إنها مؤامرة من مؤامرات راجح. وجاءت ريما بسلاحها لتقاوم وتمانع، إنما ليس «راجح»، بل أهل البلدة أنفسهم.