م. خالد إبراهيم الحجي
السينما: اختراعٌ فنيٌّ تكنولوجيٌّ طوَّعها الإنسان لتصبح بعد فترةٍ وجيزةٍ من الزمن من أهم الوسائل الفنية والثقافية والإعلامية التي تستطيع إضافة بُعدٍ جديدٍ للإنسان والمجتمع؛ لأنها تعكس روح العصر في المراحل التاريخية السابقة فتساعد على فهم الماضي وقراءة الواقع قراءةً صحيحةً وتحليل الأحداثِ تحليلاً دقيقاً وتصحيح نظرة الإنسانِ للكون والحياة؛ أي أن السينما مرآةً صادقةً تعكس واقع المجتمع والحياة، والسينما جزءٌ لا يتجزأ من الأدب الذي ظل لعدة قرونٍ أحد أهم أشكال التعبير الإنساني عن مجمل أفكار الإنسان وخواطره وعواطفه وانفعالاته ومعتقداته، وكما أن الأدب سيبقى دائماً مصدر إضاءةٍ وتنويرٍ للمجتمعات؛ وكما قيل الشعر ديوان العرب، فكذلك السينما تعد مصدر إضاءةٍ وتنويرٍ باعتبارها أحد فروع الأدب، لكنها لا تقتصر على السرد القصصي كما في الأدب وإنما تزيد عليه متعة السينمائي بالصوت والصورة، والمؤثرات الفنية المتعددة والمتنوعة التي تجذب الحواس بجمالها وتأسر الخيال بسحرها حتى وإن كانت تجسد أحداثا متكررةً، مثل: التجارب الحسية أو الواقعية. والسينما اليوم تتطور بوتيرة سريعة لارتباطها الوثيق بالتقنية والتكنولوجيا المعاصرة، وهي بمثابة مرآة تعكس أبعاد التجربة الإنسانية في العصر الحديث، ومن هذا المنطلق فإن السينما يجب أن تجمع بين الأصالة والمعاصرة، أو بمعنًى آخر تجمع بين العراقة والحداثة في آنٍ واحدٍ من خلال العروض المركبةِ من الأبعادِ الفنيةِ والجماليةِ والإبداعيةِ التي تطرحها السينما بمفرداتها اللغوية ومشاهدها الجمالية. ومن الضروري أن نفهم الدور المهم الذي تلعبه قوانين علم النفس في السينما، كي ندرك فائدة الأفلام السينمائية وقوة تأثيرها على المشاهدين؛ وبالتالي نستطيع تقييم السينما بدقةٍ من ناحية قوة تأثيرها على الجمهور في تغيير الاتجاهات والانطباعات التي تحدثها الأفلام في تغيير الأفكار الخاطئة الموجودة في العقول الجامدة عند المشاهدين. ومن ثمَّ تأتي حاجة المجتمع الماسة إلى صناعة السينما الهادفة للسببين الآتيين: (1): الفيلم السينمائي وسيلة حديثة وثرية جداً تشحذ الأذهان والتفكير وتجذب المشاهدين، وتؤثر في النفس البشريةِ تأثيراً شديداً يصل إلى درجة الإقناع وتغيير الأفكارِ والاتجاهاتِ والمعتقدات تجاه موضوع الفيلم، أو القضية التي يتناولها العرض السينمائي. (2): المعاني والرسائل التي توصلها السينما تظل فيالذاكرة مدةً أطول لأنها تجمع بين عناصر الفكاهةِ والتسليةِ والمتعةِ للمشاهدين. ويمكن أن تُوظَّف السينما الحديثة البناءة لتحقيق الفوائدِ التاليةِ:
أولاً: فتح نوافذ التعارف بين المجتمعاتِ المتنوعة والتقارب بين الشعوب المختلفة؛ لأنه من خلال مشاهدة الأفلام السينمائية المختلفةِ يدرك أفراد المجتمع أن شعوب العالم حتى وإن تنوعت طباعُها واختلفت عاداتُها عن بعضها البعض، وتباينت تقاليدُها في بعضِ الجوانبِ فإنها تتلاقى وتشترك في جوانب أخرى كثيرة.
ثانياً: نشر العادات الحميدة والتقاليد العريقة، ونشر القيم النبيلةِ والمبادئ الأصيلة والترويح عن النفس والترويج الحضاري النبيل، وإظهار خصائص المجتمع وأسلوب المعيشة والحياة وطريقة التفكير فيه.
ثالثاً: توثيق التراث للمجتمع والمحافظة عليه من التحريف وصيانته من التغييِر أو العبث والضياع.
رابعاً: عرض الأحداث التاريخية السابقة أمام الجمهور بطريقةٍ دراميةٍ مسليةٍ، تضمن الحضور الذهني والتأثير العاطفي الذي يتركه الفيلم السينمائي على الجمهور فيساعد على فهم الأحداث الماضية والتاريخ.
خامساً: تذكير الناس بالصوت والصورة بعظمة الخالق وإبراز مشاهد الإعجاز العلمي في القرآن الكريمِ والكون، وقد أدرك بعض طلاب العلم المجتهدين في مجال الدعوة الإسلامية قوةَ تأثير العرض السينمائي، ووظفوه بما لديهم من مهارةٍ في تقنية المعلومات بواسطة الدبلجةِ وبرمجيات الفوتو شوب؛ فقاموا بعمليات قصٍّ ولصقٍ للصور الكونيةِ الموجودةِ في جوجل، وأعادوا إنتاجها مع تلاواتٍ مسجلةٍ من الآيات القرآنيةِ التي يرتبط معناها بتلك الصور لعرضها عبر القنوات الفضائية، وقنوات اليوتيوب والمواقع الإلكترونيةِ.
سادساً: الدعوة إلى الوسطية والاعتدال وتصحيح الأفكار المنحرفة وتقويم السلوكيات المتطرفة؛ لأن السينما وسيلةً مغريةً للمؤسسات الدعوية المتخصصة في مجال الدعوة الصحيحة إلى الوسطية والاعتدال في الإسلام، وقبول الاختلافِ مع الآخرين والتعايش معهم.
سابعاً: المساهمة في صياغة المستقبل وتطويره من خلال عرض أفلام الخيال العلمي التي تعتبر إرهاصاتٍ ومقدماتٍ للاختراعات الحديثةِ.
ثامناً: مقاومة التنصير والآثار السلبية للعولمة عن طريق انتقاء كل ما ينفع أو يفيد الإسلام والمسلمين، والتحذير من كل ما يفسد أو يضر المجتمع لنبذه في إطار تعولم بما ينفعك أو يفيدك لا بما يسلخك من هويتك أو يضرك أو يذيبك.
ومن خلال ما سبق يتضح لنا أنه يمكن إدخال السينما الهادفة إلى المجتمعات العربية والإسلامية مع تنقيتها من العيوب، وتطهيرها من السلبيات لحاجة المجتمعات الملحة إلى إدخال تقنية السينما الحديثة لتحقيق الفوائد السابقة للمجتمع. وليس من قبيل الصدفة ِأن السينما قد أصبحت الوسيلة الأكثر جماهيرية للتعبير الفني والثقافي في العصر الحديث، والأشد تأثيراً في صياغة السلوك الشخصي والاتجاه الاجتماعي، ورفض صناعة السينما جملةً وتفصيلاً لن يصمد طويلاً أمام هيمنةِ السينما العالميةِ؛ لأن السينما وسيلةً حديثةً وفعالةً، وأصبحت شديدة التأثير في المجتمعات المعاصرة وعابرةً للحدود والقارات، كما أنها تعتبر من أهم أدوات التطوير الحضاري من خلال الترفيه والتثقيف والتعليم، ورفضها يعتبر هروبا من ساحات الثقافة وانهزاماً في ميادين التأثير الحضاري، وبالتالي تركها شاغرة لأصحاب الفكر الضال والسلوك المتطرف والديانات المنحرفة والعقائد الباطلة لنشر أفكارهم الهدامة ومعتقداتهم السامة بين أوساط المجتمع الإسلامي، ومقاومة التطويرِ الحضاري ستنتهي إلى التسليم بالأمر الواقع وبالتالي إفساح المجال لمشاهدة الأفلام العربية الهابطة والأجنبية ِالماجنة، لذا فإن مجال إنتاج سينما إسلاميةٍ فعالةٍ ونافعةٍ ومفيدةٍ للمجتمع بمعايير تقنيةِ عالميةٍ يعتبر مجالاً بكراً، ومتاحاً ينادي المجتمعاتِ الإسلامية للعمل الجاد والانخراط فيه للإبداع والابتكار، وتفعيله تفعيلاً إيجابياً صحيحاً ونافعاً ومفيداً لتحقيق إنتاجٍ عقليٍّ جديدٍ ومفيدٍ في ميدان سينما الخيرِ والفضيلةِ؛ لأن الخيرَ أقوى من الشر والحقًّ أقوى من الباطل.
الخلاصة:
إنه لمن الظلم الواضح والإجحاف الشديد أن ننظر إلى السينما من الزاوية الضارة أو السلبية، لكن العدل والإنصاف يقتضي أن ننظر إليها من جميع الزوايا المتعددة والجوانب المتنوعة والفوائد المترابطة.